ليس من السهل القبض على لحظة هاربة من عمر الإنسان في الزمان، وهو عين دوام الحال مع عشم الصياد والمياه في مهارب الشباك. ولكن من الجليل والجميل التوقف للتأمل في لحظتين لإنجاز نوع من الكتابة التي تنثال كالبوح المستفيض، أو كنفثات اليراع بمداد ندي؛ تعبيراً تارةً، وترجمة لما يعتمل في النفس والكون والوجود الإنساني الذي يتداخل فيه الذاتي بالموضوعي؛ تارةً أخرى.
في عبور لجسر عريض بتجربة ذاتية اشتغلت على دوزنة أوتار الكمان، تحت شجرة (النيم) العريقة التي تشعبت عروقها في باطن أرض وجدران دارنا العتيقة الرحيبة، وانتشرت فروع أغصانها الضخمة في سطح بيت الجيران الذين اتخذوا منها مظلة مجانية للمقيل والطبخ وشرب القهوة نهاراً، وكساتر ليلاً، والليل يستر الجبال كما يقال.
كنت أتبختر في ثواني الزمن، وأنفق الساعات الطوال؛ حين أدوزن أوتار الكمان والعود على أصوات الطيور المتنوعة، وشقشقة العصافير التي تصدح بلغتها ومنطقها، وتغرد بأصواتها التي وهبها الله لها، وهي تتنقل وبمنتهى الحبور من فنن إلى فنن، ومن عشة إلى وكر.
تعودت على تدوير وتقسيم الزمن، منذ الصباح الباكر على هذا الإيقاع الحياتي الطبيعي، تحت الشجرة الضخمة، وكذلك على التوقيعات والإيقاعات التي تكشف عنها الحركة الرشيقة الدؤوب لهذه الطيور والعصافير والحشرات على مناقيرها. ويبدو أن الإيقاع الباطني الساكن في دواخلي قد تنامى حتى تناغم يوماً بعد يوم، فأصبح وأمسى عندي بواقع زمن يتمدد ويستطيل ويتربع، ثم ينداح متوزعاً بين انسياب الأنغام وانسكاب الأوتار، في مسار عجيب مع هذه الطبيعة البسيطة التي عمرت مني الدار والكيان والوجدان. كانت حجتي في هذا الباب هو ما وقفت عليه علمياً وعملياً من دراسات متنوعة في علوم الرياضيات والفلسفة، خصوصاً عند عباقرة المدرسة الفيثاغورية اليونانية التي ربطت ربطاً وجودياً وإبداعياً رقيقاً بين الحساب والأعداد وأوتار الآلات الموسيقية؛ وبين انسياب ثواني الزمن حسابياً، والزمان العام لوجود الأشياء والكائنات في الطبيعة والكون بصفة عامة. وقد كنت وما زلت وسأظل، باجتهاد وبلا عناد؛ أتنقل بين دوزنة أوتار الكمان، وبين أوتار العود الدمشقي الذي أنفقت الغالي والنفيس في سبيل شرائه من أحد الإخوة اللاجئين السوريين في السوق الإفرنجي بالخرطوم. ويبدو أن إلحاحي على امتلاكه والامتلاء به بعد مداعبة أوتاره، قد أقنعته بمقدرتي على العناية بهذا الكنز الثمين، وربما لهذا قام بتقبيل أوتار العود واحداً بعد الآخر بطريقة مسرحية تراجيدية بالغة المبنى والمعنى، وسلمني العود واستلم المبلغ نقداً، واستحلفني كي أعتني به وكأنه ابني وأكثر!
شكل هذا العود بحمولته وزخرفته الفنية والرمزية سبباً وفتحاً فنياً راقياً ومشهوداً؛ يوم صعدت إلى خشبة المسرح الجامعي لكي أقدم نماذج منتقاة من الموسيقى المحلية والأفريقية البحتة، بلا غناء، تحيةً واحتفاءً وتقديراً لطلابي الخريجين وأسرهم من الذين افتخرت برفقتهم خلال سنوات الدراسة، وخلال الأعمال التطبيقية الفنية والموسيقية والتشكيلية، وبخاصة بعدما نجحنا كنخبة أساتذة في تجسير الهوة والجفوة والمسافات المصطنعة بين كليتي الموسيقى والدراما من جهة، وكلية الفنون الجميلة من جهة أخرى، فتطاول واستطال وامتد وتوسع مدى الزمن إلى أزمان وحيوات، وعلاقات جديدة ومميزة أشبه بالحديقة الغناء التي يجد كل مرتاد فيها ما يروق له من آمال وأحلام وإيقاعات وأصوات وألوان أو محض أصداء، قد تتردد في دواخله أو تنسكب بين ضلوعه وفي جوانحه ثم تحلق به في مدارات وعوالم وسماوات يتقلب بها ومنها وفيها بالجميل والجليل، وهذا عين المبتغى ومشتهى الخواطر عند كل إنسان فنان.
اجتهدت خلال اشتغالي مع الطلاب، وبخاصة في شعبة الموسيقى؛ على تحويل مشروع دوزنة الأوتار بالعدد والحساب إلى حصة خاصة، قد تمتد أحياناً إلى جلسات ملحقة خصماً على زمن الاستراحة أو الإفطار أو الحوارات الفنية حتى السطحية منها التي تحتدم يومياً في المقهى الخاص بالطلاب والذي كنا نرتاده نحن الأساتذة لكسر الحواجز النفسية، ولتمرير جرعات إضافية من الشحنات العاطفية والروحية لبعض الطلاب المتميزين ذوقياً وموسيقياً وإبداعياً، وذلك باقتناصهم وتشجيعهم للالتحاق بكورال الكلية، ثم الجامعة، ثم التطلع للظهور صحبة كورال وأوركسترا الإذاعة والتلفزيون، التي تفتح أبواب الشهرة والمال والإعلام.
حفزني نجاحي واجتهادي رفقة نخبة زملائي الأساتذة في تحويل هذا التجسير التواصلي والعلائقي من الأكاديمي الصارم، إلى البعد الفني والعمق الإبداعي، وبالتالي في بناء معمار المسارات وتعبيد المسافات الحياتية والمجتمعية، وفي كلمة: الوجودية بين الزمن الذي كان مظهره ومفهومه عند الطلاب مرتبطاً ارتباطاً مرعباً بين قرع الجرس إما بابتداء جداول الحصص وخصم النقاط، أو بزمن الاستراحة للإفطار أو الصلاة أو للإعلام بانتهاء اليوم الدراسي. استطال الزمن العادي وتحور وتعملق حتى صار زماناً خاصاً بشلة أو نخبة الطلاب الذين انخرطوا بكل كياناتهم وطموحاتهم وآمالهم في هذه التجربة الوجودية الفنية/الإبداعية، بعد أن سكنت في حضورهم وحلهم وترحالهم، بل في وعيهم بالزمان العام الذي يجعل من الإنسان الفنان كائناً واعياً وشاملاً وليس مشمولاً.
وفي محطة غير بعيدة توصلت كلية الموسيقى والدراما بدعوة رسمية من إحدى الجامعات الفرنسية للمشاركة في مهرجان ثقافي بتقديم نماذج من الأداء الفني للموسيقى والعروض التجريبية في علاقتها بروح العصر، مع الاحتفاظ بالأصول والقواعد والقوالب الأصيلة والأصلية لكل بلد من الدول المشاركة.
اشتغلنا ليل نهار في تنسيق وترتيب وتنزيل مشروع التجسير بين الزمن الخاص الداخلي للإنسان وبين الزمان العام الشامل في جوفه للفصول الأربعة بحرها وبردها. وكانت التدريبات متصلة بانسياب وتمازج بلغ حد التناغم الوجداني الرفيع بين أعضاء الفرقة الفنية من الذين توحد الزمن لديهم في شكله، خصوصاً خلال ساعات التدريب، ولكنه لم يتوقف في انسيابه كامتداد طبيعي لوجودهم الذي تمحور في تطوير وإنجاز وتقديم مشروع لوحة إبداعهم الفني.
استشرت زملائي الأساتذة ونخبة طلاب الفرقة لتنظيم منتدى حواري سرعان ما تحول إلى ورشة تدريبية، حين اتفقنا على استدعاء بعض أساتذة قسم الرياضيات من كلية العلوم، وآخرين من قسم المعمار بكلية الهندسة من الذين استفاضوا في الحديث النظري ثم التطبيقات العملية عن علاقة العدد والأرقام وهندسة ومعمار العروض الحركية الفنية بالموسيقى وحتى الإضاءة، وتوزيع مساحات وفضاءات المسرح على العازفين والراقصين والمنشدين؛ لاحتواء حضور وحواس المشاهدين.
جاءت خلاصة الورشة بمزيد من التجويد والسبك والإتقان لروح وجماليات ومبنى ومعنى عروضنا التي سنقدمها.
سافرنا إلى باريس بعد إجراءات فيها ما فيها من التعقيدات البالغة حد الإحباط بسبب شكوك مفوضية الاتحاد الأوروبي المشروعة في احتمالية هروب بعض المسافرين والوفود، وبخاصة شباب السودان والبلدان الأفريقية، واختفائهم في البلدان الأوروبية، قبل أو بعد مشاركاتهم، فنيةً كانت أم رياضية!
غادرنا الخرطوم منتقلين من الزمن المحلي إلى الزمان الباريسي العالمي بفضاءاته العولمية الاتصالية والتواصلية والإعلامية. لم ننبهر أمام الحشود التي كانت تصطف ثم تتوزع بانتظام وهدوء على أبواب وفضاءات وحدائق وصالات عرض وخشبة مسرح مدينة الفنون العالمية الباريسية. كانت ثقتنا في أنفسنا مبنية على دوزنة الأحاسيس والمشاعر التي تشربناها بالتمارين المستمرة، حتى اتسقت فينا وبيننا، عبر أوتار الآلات والإبداعات والرقصات التعبيرية المحلية بتفاصيل وعناية فائقة، ثم عززناها بالأزياء الوطنية التي اخترناها بعناية لتنسجم مع الإطار الموسيقي والتشكيلي وهندسة الأرقام والأعداد والمعمار، ولتطال عين الاتساق جميع التفاصيل الحركية والإيقاعية واللونية والتعبيرية التي تتقدم من المستمع والمشاهد الواعي بباقة متكاملة من الفنون التي تموسقت وتآلفت فتوحدت عبر التجسير المعرفي والفني بين الكليات، وبين الفنون والزمن العابر بالزمان، من بعدما تهيأت لنا الفرصة لنحقق الطفرة الإبداعية التي أبهرت الحضور الباريسي والعالمي المشارك في المهرجان. كانت اللجنة الخاصة بالتقييم والتقويم لأعمال المشاركين قد أعدت تقريراً فنياً مترجماً ودقيقاً تلاه رئيسها حول تفاصيل التفاصيل التي حضرت في تنسيق وتشكيل وانسياب العرض الفني والموسيقي، وبلاغة خطاب اللغة البصرية الذي قدمناه. وكان الأهم والأجمل، بل الأبهى عندي من كل هذا وفيه؛ هو تركيز تقرير اللجنة على آلية التجسير الأكاديمي، وحيوية دوزنة الأوتار والأفكار والآلات والرقصات، وكذلك الأحاسيس والمشاعر التي صادقت على تقديم رؤية جديدة في عوالم الانتقال من الزمن العابر إلى الزمان المقيم في روح وكيان وإبداع الإنسان.