يشكل الزمن لبنة أساسية في العلاقة بين الثقافة الرقمية والتسارع الاجتماعي، الذي يخلق نوعاً من التفاعل والنفوذ المتبادل بينهما، فيؤدي إلى تشكيل وتغيير الثقافة.
إن محاولة التفكير في الزمن لا يمكن أن تتم إلا من خلال خلق سلسلة من الأنساق التي تقوم بتنظيم الأدوار والوظائف، وصبها في وعاء يُمَّكِنٌنَا من تحديد السياق الثقافي الذي يتحقق من صورته المجردة إلى صورته المجسدة، وهذا التحقق لا يتم عن طريق الصدفة بل من خلال مجموعة من الأحداث الزمنية، وهذا ما أكده بول ريكور حينما اعتبر أن لا وجود لزمن خارج التجربة الإنسانية.
إذ يعرف الزمن الراهن في ظل الهيمنة الحاسوبية تطورات متسارعة، ويجسد الزمن أحد آثار هذه الثقافة الرقمية، ويشير هذا المصطلح إلى الطريقة التي يتفاعل بها الأفراد مع هذه التكنولوجيا، فهي تشمل الطرق والتقنيات التي يمكن الاعتماد عليها لأداء المهام والأعمال. ومن جهة أخرى يحيلنا مصطلح الثقافة الرقمية على التغيرات الثقافية التي شملت الأفراد والمجتمعات ككل، كما أنها لم تعد تقتصر على سن أو جنس محددين.
وتعد الثورة الرقمية الحالية بمثابة انتقال من النسق التقني الميكانيكي إلى النسق الرقمي، والذي أدى بدوره إلى التسارع الاجتماعي، أي تسارع إيقاع الممارسات والأفعال والعلاقات والمنظومات الاجتماعية.
وقد استخدم هارتموت روزا مفهوم التسارع لوصف زيادة السرعة والكمية في الأنشطة والتواصل والتغييرات في الحياة، كما أنه يعتقد أن التسارع الاجتماعي يؤدي إلى تغير في طبيعة العلاقات الاجتماعية والثقافية والهوية الفردية.
من هنا فإن الثقافة الرقمية تتفاعل مع الزمن، إذ تشكل التكنولوجيا الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي سبباً في تسارع الزمن بالنسبة للأفراد، حيث يتواصل الأفراد بسرعة فائقة ويتم استنفاد الزمن في الاستجابة السريعة وتبادل المعلومات والمحتوى.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هارتموت روزا يشدد في كتابه (التسارع، نقد اجتماعي للوقت) على سلطة الثقافة الرقمية في التفاعلات الاجتماعية والهوية الشخصية، ويلفت الانتباه إلى أن تقاطعاً يحدث في المجتمعات الحديثة بين التسارع التقني وارتفاع إيقاع الحياة الذي تتبدل من خلاله الممارسات والعلاقات الاجتماعية، حيث يُغَذي التسريع التقني التسريع الاجتماعي، الذي بدوره يسرع من وتيرة المعيشة مما يخلق طلباً على تسريع تقني جديد.
ولعل عمليات التسريع التكنولوجي العملاق التي عرفتها وسائل النقل، وتدفق المعلومات، والزيادة في كميات الإنتاج كان من شأنه إحداث ثورة ثقافية، مما أثر على الأساليب الذاتية للطابع الاجتماعي، فشهدت علاقة الفرد بالناس وبمجتمعه تحولات كبيرة عدلت مجموعة من المسارات، ويؤكد روزا على أن التسريع لا يفرض بنفسه ارتفاع إيقاع الحياة، وإنما يعمل على تغيير المعايير الوقتية التي تشكل أساس أفعالنا واختياراتنا، مما يولد لدى الأفراد الضغط وهي ردة فعل نفسية تتميز بالشعور بالوقت المعلق.
ويعد الخيال الرقمي المتمثل في المنصات الاجتماعية العالمية أحد المسببات الرئيسة في تسريع الزمن، وتغيير التجربة الإنسانية، إلا أن الزمن من الناحية الفزيائية هو ثابت لا يتغير ولا يتحول، فاليوم يتكون من أربع وعشرين ساعة والسنة من ثلاثمئة وخمسة وستين يوماً، وبمجرد أن ندرك هذه الحقيقة العلمية الثابتة يصبح لدينا شكل من أشكال الوعي الذاتي الذي يعتبر الوقت أداة يتم تسريعها.
هذا التسارع يصبح الحاضر غير المستقر، يتسرب ويتغلغل في الحياة اليومية للأفراد، وتصبح مواجهته صعبة، ونجد أن الممارسات الاستهلاكية والاجتماعية والثقافية تخلق نوعاً من الضغط والتي يمكن تلخيصها في بعض النقاط الآتية:
1 - تسارع الزمن: توفر لنا التكنولوجيا الرقمية وسائل تواصل سريعة وفورية، وتمكننا من الوصول السريع إلى المعلومات والمحتوى وتحقق التفاعل الفوري، هذا يؤدي إلى ضيق الزمن المتاح للقيام بالأنشطة والتفاعلات الاجتماعية.
2- تغيرات الثقافة: يؤثر التسارع الاجتماعي وتكنولوجيا الاتصال الرقمي في ثقافتنا فالمعلومات والمحتويات تنتقل بسرعة فائقة، مما يقضي إلى تغيير في طرق انتقال المعرفة والتفاعل الثقافي، إذ أصبح من السهل مشاركة واستهلاك المحتوى الرقمي بشكل فوري وعالمي، وهذا من شأنه أن يشكل تهديدا على القيم والمعتقدات والتوجهات الثقافية.
3 - انعدام الاستقرار الزمني: يشعر الأفراد بتحركية الزمن والحاجة إلى الاستجابة الفورية في العصر الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، واللذان يفرضان على الأفراد التواجد المستمر والتفاعل السريع، من ثمة يبدأ الشعور بضيق الزمن المتاح للاستراحة والتأمل والتفكير العميق.
صحيح أن الثقافة الرقمية اليوم عملت على تسهيل التواصل بين الأفراد عبر مختلف القارات، إلا أن الاعتماد المفرط عليها قد يتسبب في تقليل الاتصال الشخصي المباشر والتفاعل الواقعي مع الأفراد، فيزداد الضغط الزمني إذ تعتبر الثقافة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي سببا في زيادة الضغط الزمني على الأفراد، فأضحت لدينا متطلبات التواصل الفوري والاستجابة السريعة، والشعور بالحاجة إلى توفير المزيد من الوقت للمشاركة الرقمية ومتابعة الأحداث المستمرة.
مما يولد إحساساً بانعدام الاستقرار الزمني الذي تفرضه التقنيات الرقمية والتغييرات المستمرة في طبيعة الزمن والمجال الزمني، فتغدو المعلومات والمحتويات الرقمية قابلة للتحديث والتغيير بسرعة، مما يؤدي إلى انعدام الاستقرار الزمني والحاجة إلى التكيف المستمر مع التغيرات.
ومن ثم فإن التكنولوجيا الرقمية والتسارع الاجتماعي يمكنهما أن يلعبا دوراً مهماً بالشعور بالعجز عن مواكبة كل التغيرات والتحديثات المستمرة، من خلال التفاعل مع تدفق المعلومات والتكنولوجيا الجديدة، ففي عالم مليء بالمحتوى الرقمي والتطبيقات ووسائل التواصل الاجتماعي بات من الصعب التركيز والتفاعل مع المحتوى الذي بإمكانه أن يساهم في تطوير المهارات والثقافة والهوية الشخصية.
بشكل عام، يمكن القول: إن الثقافة الرقمية والتسارع الاجتماعي يؤثران في تشكيل الزمن واستخدامه، مما يحدث تغييرات في طبيعة التفاعل الاجتماعي والثقافة العامة. يتطلب فهم هذه العلاقة مواكبة التكنولوجيا واستخدامها بشكل واع وتوجيه الاهتمام والوقت بحكمة للحفاظ على التوازن الصحي بين الثقافة الرقمية وجودة الحياة.