ومازال الإنسان يجادل ويسأل (ما هو الزمن؟). لقد فرضت علينا ثورة الاتصالات وطفرات التطور التقني في عالمنا المعاصر تداول مصطلحات ظهرت إلى الوجود حديثاً، أو هكذا نظن، ومنها مصطلح (الواقع الافتراضي) الذي هو واقع موازٍ لواقع فعلي حقيقي. وهذا الواقع الافتراضي، حتى لو تجاوز بكثير حجم الواقع الفعلي، وأصبح هو سيد الموقف؛ فسيظل افتراضياً، بمعنى أقرب إلى الوهم، بينما يبقى الواقع الفعلي قائماً، فهو الحق الذي يكون عليه القياس، فيما اختلف فيه الناس. ولكن هذا المصطلح ليس في حقيقة الأمر جديداً كلياً، وإنما هو ضارب في القدم، ففي عهد الإغريق، ما قبل ميلاد المسيح؛ كان هناك الفيلسوف (بارمنيدس) وتابعه (زينون)، قد افترضا أن العالم وحدة واحدة فقط، وكل ما يراه الناس فيه من كثرة أشياء هو وهم، وافترضا أيضاً أن العالم ثابت تماماً، وأن كل ما يحسه الناس فيه من حركة هو وهم. وقدما حججهما وبراهينهما على ذلك، فمثلاً إذا أراد بطل الأولمب العداء (أخيلوس) أن يلحق بالسلحفاة فلن يلحق بها أبداً، حتى ولو رأيناه نحن فعلاً قد لحقها وتجاوزها، فإن هذه الرؤية تعتبر عند (بارمنيدس) وتابعه إنما هي واقع افتراضي بحت، بينما (أخيلوس) قائم ثابت في مكانه لم يتحرك أصلاً، فإنه لكي يصل إلى مكان السلحفاة يحتاج أن يقطع نصف المسافة أولاً، وقبل ذلك يقطع نصف النصف.. وهكذا إلى ما لا نهاية له من نقاط المسافة التي يجب عليه أن يقطعها، لذا فهو في الحقيقة واقف أزلاً.
ربما كانت هذه أول صفعة على وجه الإنسان ينتبه فيها لشعوره الذاتي بمشكلة الزمن وارتباطه بالحركة، فهل هذا الزمن وهم أم أنه حقيقة؟ وهل هو واقع حقيقي أم أنه واقع افتراضي؟ وبقي السؤال مفتوحاً إلى يومنا هذا. فبعض الناس يرون أن الحركة هي العامل الأساس والحاسم في الشعور بالزمن، فكلما ازدادت الحركة تسارع الزمن، وبعض آخرين يرون أن الزمن ساكن في ذاته لا يتغير ولكن شعورنا به هو الذي يتحرك سرعة وإبطاءً، ثم تحضر النظريات العلمية ليفسر (أينشتاين) في (النسبية) أن الكون كله مجالات متعددة، وأن لكل مجال زمناً خاصاً ينتسب إليه، ويتحكم في أبعاده الأخرى، وقامت المعادلات الرياضية المعمقة برهاناً على هذا. ولكنّ أحداً من الناس حتى الآن لم يخرج عن مجاله الكوني ليعيش زمناً مختلفاً في مجال كوني آخر. ولنتوقف هنا لحظة لنلاحظ أن القاسم المشترك في كل هذه الاتجاهات، ليس هو حقيقة الزمن؛ وإنما الشعور بالزمن هو كل ما هنالك، فنحن نشعر به على نحو ما ثم نحاول أن نخرج هذا الشعور عن ذواتنا ليكون واقعاً موضوعياً ونطالب الجميع أن يقروه وأن يفسروا به أحوالهم. ولكن كل هذه التفسيرات للزمن في حقيقة ذاته هي طعن في ظل الكائن لا طائل كثير وراءه. فماذا علينا لو عشنا الزمن هكذا كما نشعر به: سريعاً، بطيئاً؛ ليس هذا هو المهم، ولكن المهم هو كيف نشعر به؟ وكيف نعيش هذا الشعور؟ وكيف نحول هذا الشعور بالزمن إلى ساحة للإنجازات الإيجابية؟ فالزمن لا ينبغي أن يقاس بلحظات مروره: ساعات وأيام وسنوات؛ وإنما بإنجازات تمت فيه طال أو قصر. فالشعور الذاتي بالزمن أو الشعور الزماني هو إذن العامل الحاسم.
ولعل في الفيلم السنيمائي (الصحوة) صورة مثالية لمعايشة الإنسان شعوره الزماني، بغض النظر عن حقيقة الزمن في ذاته، ذلك الفيلم الذي دارت أحداثه واقعياً في فترة أخريات الستينات من القرن العشرين، وذلك حينما عين (د.ساير) طبيباً معالجاً في مستشفى الأمراض المزمنة بالولايات المتحدة الأمريكية، ليجد عالماً فريداً من البشر الأحياء الغائبين عن فاعلية الحياة اليومية لعقود طويلة من عمرهم، نتيجة إصابتهم بمرض التصلب اللويحي، فظلوا طول فترتهم وراء جدران المستشفى لا يخرجون إلى العالم الخارجي، منهم من غاب عن معايشة الحياة لأربعين سنة ومنهم ثلاثين ومنهم دون ذلك أو أكثر. تحرك الطبيب (ساير) بالدافع الشعوري الإنساني نحوهم بتعاطف عميق، كان سبباً في أن كرس نهاره وليله من أجل اكتشاف علاج لهؤلاء يعيدهم به إلى الحياة الواعية الواقعية من جديد، إذ كان هو الوحيد من بين الأطباء من آمن بأن ذلك ممكن، وقد فعل، وربما ليته ما فعل؛ فلقد كان من الطبيعي أن يفكر الطبيب بمعايير يومه وخبرته السوية هو عندما قرر في شأن مرضاه أن الأصلح لهم هو إعادتهم مما هم فيه وتحريرهم من الأسر في الماضي ومن جدران المستشفى؛ ولكن كانت الصدمة والدرس المستفاد في آن معاً عندما نجح الدواء وعاد الغائبون، ولكنهم عادوا بعقلياتهم ومشاعرهم القديمة وحدود خبراتهم التي توقفوا عندها يوم أصيبوا بالمرض منذ سنوات طوال، فمن هو بالسبعين عاد بروح وعقل وخبرة الشاب في العشرين، حيث كان يومذاك. إنه الشعور الذاتي بالزمن، هنا كان لا بد أن ينشأ صراع نفسي كبير بين الماضي والحاضر الذي أتى فجأة في حياة هؤلاء، فالمنجزات التي تمت طوال هذه المدة كانت أكبر بكثير من تلك التي توقف عندها زمانهم، ثم ليتحول الصراع إلى نقمة وتمرد على الأطباء الذين وقع بظنهم أنهم يحولون بينهم وبين أن يمارسوا الحياة بحرية كما يعونها هم، وليس كما يفرضها هذا الحاضر الغريب تماماً. وكاد الأمر يتحول إلى كارثة حقيقية لولا أن أدركهم قدر الله بلطفه بأن الدواء لم يحسم المرض نهائياً، وإنما فقط كان ذا تأثير جزئي مؤقت، فكانت مجرد لحظات (صحوة) رجعوا بعدها تدريجياً إلى مرضهم بسلام ولتطمئن نفوسهم وتهدأ في عالمهم الخاص وزمانهم الخاص الذي ألفوه طويلاً. وهذا بدوره يقود إلى مثال آخر في علاقة الشعور الزماني الخاص بالعرف التقليدي لدى الناس، وهو ما ورد في القرآن الكريم عن أهل الكهف: كيف أن الله تعالى أماتهم سنين عدداً، ولكن شعورهم الزماني عندما استيقظوا أنهم لبثوا فقط يوماً أو بعض يوم؟ وهذا نفسه ما يجري للإنسان في حال نومه العادي، فكثرة الأحداث التي تمر به في الحلم قد تجعله يظن أنه لبث أياماً في حين أنه لم ينم إلا وقت وجيز. إذن فلنعش الزمن كيفما شعرنا به، ولا نسأل غيرنا عن شعوره به، وإن اتفق معنا أو اختلف.