اللغة هي واحدة، والكلمات هي واحدة، واللغة هي مكررة في حقيقتها، لأنها منحصرة ضمن حروفها الأبجدية ولا تستطيع الخروج عنها بأي حال من الأحوال، لكن ما هو مدهش، ويجعل اللغة متجددة وغنية ولا تبعث على الملل، بل على العكس، تبعث على التشويق بمختلف عناصره وآلياته؛ هو التوظيف السليم لهذه اللغة.
ويكون ذلك بشكل عام، فثمة شخص يتحدث ساعة كاملة ولا تريد له أن يصمت، لأنه يمتلك مقومات إدهاشك بما يقول، ويوظف الأحداث بشكل متناسق، بحيث تأتي بشكل تشويقي، فتبقى تستمع وأنت تترقب لمعة قوية جديدة يدهشك بها بين جملة وأخرى.
من هنا نعرف أن أي حديث متناسق مشوق، بعيد عن الملل؛ يكون من خلال التركيز على فكرة ما، ثم التركيز على الكلمات والعبارات التي تكون في خدمة هذه الفكرة فقط، وبذلك فإنك تجعل السامع أو القارئ مشدوداً إليك.
وفي حال خروجك بعبارة أو بكلمة عن الفكرة، سيؤدي ذلك إلى خروج مستمعك أو قارئك أيضاً عن الفكرة، وهذا ما يكون بمثابة ضربة قاصمة على عنصر التشويق، بحيث تقطع خيط التشويق بينك وبين السامع أو القارئ، ولا عجب بعد ذلك أن تراه يقاطعك، أو ينهض من المجلس الذي تتحدث فيه، أو يبدي بعض حركات الملل من حديثك، أو يقفل الجهاز الذي تتحدث منه، أو حتى يتذرع بشيء كي يغلق الهاتف ويلغي مكالمته معك.
فأصبحنا بذلك أمام متكلمَين: أحدهما يريد أن تنهي كلامك بسرعة وهو يشعر بأنك تجلد سمعه بعباراتك الركيكة وجملك الهشة، والآخر يريد أن تستمر فيه وهو ينصت بدهشة إلى عباراتك القوية، وجملك المتماسة.
فكما أن لكل كلمة معناها، فلها إيقاعها أيضاً، وكما أنك عندما تضع وردة في تربة تنسجم معها، فإنها تورق، وعندما تضعها في تربة لا تنسجم معها، فإنها تذبل؛ كذلك الكلمة، فعندما تضعها في جملة مناسبة لها، فإنها تلتمع وهي تدهشك بمسك معناها، وعندما تضعها في جملة تنفر منها، فإنها تبدو باهتة وخالية من المعنى.
اللغة والإبداع الأدبي
لكل جنس أدبي لغته الخاصة به، فلغة الرواية تختلف عن لغة القصة القصيرة، ولغة المسرح تختلف عن لغة الشعر، ولغة الفلسفة تختلف عن لغة الفكر، لكن ما يجمع التميز في الإبداع في هذه الأجناس، هو التركيز على وحدة الفكرة.
فالرواية سواء أكانت ناجحة، أو فاشلة، تبدأ لمعتها الأولى في مخيلة الروائي من فكرة معينة، ولكن لماذا تكون هذه الرواية ناجحة، والأخرى فاشلة، رغم وجود عناصر ومقومات السرد الروائي في الروايتين؟ ولماذا يستمتع القارئ بقراءة هذه الرواية بلذة وتشويق ويضع السطور تحت الجمل القوية التي تلفت نظره وتدهشه، ويبقى يعود إليها بين فترة وأخرى، وأحياناً يعيد قراءة الرواية أكثر من مرة، في حين تبدو الرواية الأخرى فجة تبعث على الملل، ولا يستطيع أن يكملها، ومهما ضغط على نفسه، قد لا يبلغ ربعها بالكاد حتى يتوقف عن قراءتها.
من هنا نعرف بأن عناصر الرواية الناجحة تتكامل مع بعضها بعضاً وتجذب القارئ إلى أجوائها المتكاملة، وعناصر الرواية الفاشلة تتشتت عن بعضها بعضاً وتنفر القارئ لتشتت أجواءها. ومن ذلك على سبيل المثال في الرواية الفاشلة:
- فقر الرواية من الحوارات القصيرة.
- إقحام السرد الطويل الممل عليها.
- إقحام بعض العبارات، أو الشخصيات التي لا تخدم فكرة الرواية.
- كثرة الأخطاء اللغوية، أو النحوية، أو الإملائية.
- عدم التوفيق في استخدام التقنيات الفنية الملائمة لفكرة الرواية.
- عدم التوفيق في استخدام الكلمات المناسبة في مواضعها، سواء أثناء الحوار، أو السرد.
- عدم ضبط الزمن في الرواية.
- عدم التوفيق في اختيار أسماء شخوص الرواية، فالقارئ يتوقف عند الاسم، وأحياناً يبحث عن معناه.
- عدم رسم ملامح وأوصاف، وحتى أزياء شخوص الرواية.
فالرواية هي عالم متكامل، بحيث يتعرف القارئ على الشخصيات السلبية والإيجابية فيها، وتنحفر ملامح هذه الشخصيات في ذاكرته بحيث يستطيع أن يقرنها بشخصيات يعرفها أو يراها في الواقع.
وإن كان هذا الكلام يأتي على الرواية، فهو يأتي كذلك على مختلف أجناس الإبداع الأدبي أو الفني، أو الفكري. فالكتاب مهما كان حجمه كبيراً أو صغيراً، يبقى يحافظ على تجدده، وحيويته، وانتشاره، وتداوله، على قدر ما يكون مركزاً على الفكرة الجديدة التي يطرحها، ويجعل كل عناصر ومفردات اللغة في خدمة هذه الفكرة، ويعرف كيف يبعد ما يمكن له أن يكون حشواً، أو إقحاماً.