إن المتابع لمسيرة الأدب بصفة عامة وما يتعلق بفنونه السردية بصفة خاصة لابد له من أن يلاحظ تزايد أنواعها التي ما عادت تقتصر على الرواية والقصة وحسب، بل تعدتهما إلى ما يسمى بالرواية القصيرة، والتي يقابلها في السرد القصصي القصة القصيرة، ومن ثمّ ما اصطلح عليه بالأقصوصة والقصة القصيرة جداً، وكذلك ما أطلق عليه بالسيرة الذاتية وسواها. كل ذلك يبشر بأن قَوام الإبداع لا يمتثل إلى صيغة نهائية بل يمضي عبر مغامرة التجريب إلى أشكال متعددة وغير نهائية.
وإذا كانت العلاقة القائمة بين الأجناس الأدبية والإبداعية كافة ناشئة على أساس التمايز والتغاير لا على أساس التنافر والإلغاء، فمن البديهي أن تكون العلاقة بين الرواية وأخواتها في السرد، من سيرة ذاتية وقصة وقصة قصيرة وقصة قصيرة جداً كنوع سردي مقترح؛ قائمة على حسن الجوار طالما لكل منها صفاته وسماته المختلفة التي تكفل له استمرارية البقاء والاستقلالية بملامحه الإبداعية، وطالما أنها لا تقع في براثن التشابه مع غيرها من الأجناس الأخرى ولا تراوح في حدود منجزها الذي يتوجب عليها تجاوزه إلى منجز آخر لم تبلغه من قبل. وما يقال اليوم عن انحسار إنجاز القصة القصيرة لصالح الرواية ليس دقيقاً، لأن ازدهار كتابة القصة القصيرة في مرحلة سابقة وتداولها من القراء لم يكن على حساب الرواية بحال من الأحوال بدليل عدم إلغائه لها. وإذا كانت الرواية اليوم ترفل بالزهوّ والازدهار الذي نعمت به القصة من قبل، فلها ومن حقها أن تأخذ كل ما حققته في مسيرتها من مكتسبات ولكن دون الاعتقاد في نشوة ذلك أنها الباقية الوحيدة في الساحة الإبداعية وأن القصة القصيرة أو غيرها من الأجناس الأخرى قد انتهت كلها إلى زوال، فالرواية في عز ازدهارها اليوم مطالبة بتحديث أدواتها لتشكل من خلالها ملامح نصها الحداثي غير المنجز بعد، وأخواتها في السرد مطالبات بذلك أيضاً رغم التباين الحاصل في دور كل منها وحركته. ففي الوقت الذي تذهب فيه الرواية إلى رصد الهم الجماعي والتحدث عن التحولات الماثلة من خلاله، تتعامل القصة القصيرة مع الفرد وخصوصيته، ونستطيع القول في الصدد ذاته: إن القصة القصيرة بدأت تتحرر من سياقاتها التسجيلية والواقعية وتنحو بتشكيلها الحداثي إلى السرد التعبيري الفني المتحرر وغير الملتزم بوحدة المشاهد أو تتابعها ودون الامتثال لحبكة مركزية وذلك بعدما ذهب تركيزها إلى الحالات المتعددة والصفات الملتبسة.. بهذا المعنى يمكن القول إن البنى السردية في الرواية وأخواتها، بل وفي مُجمل الفنون الإبداعية الأخرى، ما عادت أسيرة القواعد المسبقة بقدر ما هي أسيرة الرغبة المغامِرة لبلوغ تخوم منجز آخر بملامح غير معهودة، الأمر الذي يفسر لنا تمخض الرواية القصيرة كشكل آخر للكتابة الروائية بعد الرواية، وهو ما نجد نظيراً له في السرد القصصي عبر ما يسمى بالقصة القصيرة جداً والتي تأتي كمحاولة لأخذ السرد القصصي إلى احتمالاته الأخرى وإلى قوامه الآخر غير المكتشف. فقبل أن تأخذ الأجناس الأدبية والفنية أشكالها السائدة كانت غافية في عتمتها ومختبئة في غيابها، وبفضل السفر الدائب إلى مجهولها والمغامرة الشجاعة في البحث عنها وعن أسرارها؛ خرجت بقوامها المكتشف إلى حيز الوجود والعلن، فقبل الرواية كانت الرواية سادرة في حضورها المؤجل، وكانت القصيدة قيد الإقامة المجهولة والقصة القصيرة ظلت متنكرة بخفائها حتى تلمّس البحث المضني ملامح كل منها واهتدى إلى بعض أنواعها مستدرجاً إياها إلى حيز الظهور. بينما بقي الكل الآخر للأنواع الإبداعية الأخرى قصيّاً لم يدانيه الاكتشاف بعد. وإذا كانت الرواية القصيرة قد جاءت ووفدت من غيابها واكتسبت موقعها السردي بعد الرواية؛ فمتى تمّ ذلك لها وهل ثمة ما يميز بينها وبين الرواية من النواحي السردية والبنوية حتى اكتسبت ملامح التغاير عنها؟
إن معظم الدراسات والمقاربات تشير إلى أن الرواية القصيرة اشتق اسمها من الكلمة الإيطالية نوفيلا (novella) أو (short novel) التي تعني الجديد، وقد أعطى النقاد والأدباء وصفاً للرواية القصيرة بأنها أطول من القصة القصيرة وأقصر من الرواية، ويمكن أن تُعرّف وفق ذلك بالعمل النثري الفني، الذي يحقق التوازن الواعي بين الإيجاز الدقيق والتوسع المطلق، وهما العنصران اللذان يسمح بهما فن الرواية القصيرة بشكل واضح، وهو فن يستفيد بأحسن ما في القصة القصيرة والرواية معاً من عناصر ومقومات. وإذا كان التعريف السابق يمكن اختصاره في جملة واحدة فهي: الرواية القصيرة فن توسيع الإيجاز.
وفي هذا الصدد يقول بيتر هاندكه: (إن تطوّر الأدب لا يمكن أن يحدث إلا من خلال تطهيره تدريجياً من كل عناصر السرد الزائدة التي لا نفع منها). فلم يكن عدد صفحات رواية ما معياراً أو عاملاً في تحديد خصوصيتها وقيمتها الجمالية أو في عبورها للعصور والثقافات نحو الخلود في تراث الإنسانية.
أما فيما يتعلق بالسرد القصصي، فقد تمخض عنه القصّ القصير جداً، بعد القص الطويل والقصير ليطرح نفسه كملمحٍ جديد في السرد أو كصورة إضافية له، ولنا عبر هذا السياق أن نتساءل إن كان بالإمكان اعتباره نوعاً سردياً مستقلاً ينتسب لذاته، أم أنه بقصره القصير جداً ابن شرعي للقص الآخر غير القصير جداً والذي يتمثّل بالقصة وبالقصة القصيرة، وبالتالي سيكون حاملاً في بنيته بعض الصفات التي ستورّثه إياها ما دام خارجاً من رحمها ومن صلبها، إضافة إلى الصفات الأخرى التي يمكن له أن يكتسبها من كوامن محيطه الإبداعي ومن موجودات الفنون الكتابية واللونية على اختلافها. ومما أنجزه هذا القص القصير جداً وعلى تباين مستوياته، نجد أنه تحت مسمى (القصة القصيرة جداً) قد نهض على الاختزال، وقام على الإشارة الرمزية والاختصار بدءاً من اسمه وعناوين نصوصه ووصولاً إلى مساحته السردية الآخذة بالانكماش والتقلص حتى تشكّل سياق القص فيها من بضعة أسطر. وإذا كانت البلاغة بالإيجاز فإن ضيق العبارة سيحمِّلها مسؤولية اتساع الرؤية حسب مقولة النفري التي اندفعت من مقاصدها إلى تقطير الإيجاز القصصي لتبلغ مرادها السردي القصير جداً ولتشكل بموجبه خطها الفاصل مع فنون السرد الأخرى التي تقوم العلاقة بينها على أواصر التجاور والتكامل وليس على الإقصاء والتنافر، فتتضافر معاً بأدواتها وتقنياتها المختلفة في صياغة المشهد السردي الذي يبدو حيناً في سيرة قصيرة مختزلة كما هو الحال في التشكيلات القصصية المتنوعة وحيناً آخر يبدو في سيرة طويلة مسهبة في تفاصيلها كما هو الحال في الرواية.