كانت الدنيا ما يزال يلفها السديم والضباب حينما بدأ الإنسان خطاه الأولى عليها.. كانت السماء تتفجر بحاراً، وكانت سياط بروقها المشتعلة تلهب ظهر الليالي المدلهمات فيدوي عويل هزيمها رعوداً يشق صداها السكون الرهيب.
منذ ذلك الزمان البعيد رافقت خطى الإنسان الهواجس والخوف والتوجس والقلق ومازالت.. كان يعلم بأنه في ظلمات تلك الغابات المظلمة، وحوشها وهوامها، إما قاتلاً وإما مقتولاً، والموت فاغر -ينتظر- ألفَ فمٍ وفم.. منذ تلك اللحظات كان الإنسان يفكر في بقاء غير مضمون وخلود لا ينبغي له.. كانت الأيام تتسرب كما يتسرب الماء من بين فروج الأصابع، وكان العمر كما ساعة رمل تنهال رمالها منذ لحظة الميلاد -في إصرار عجيب- إلى آخر ذرة رمل أو آخر نبضة قلب.
وفي ساعات الصفو النادرة عندما تعشوشب الدنيا أمام عينيه ربيعاً تتزين بسندسها الموشى، كان يقف أمام بوابة كهفه أو خلف كوة مغارته -بعد ري وشبع- وهو يتابع قطيعاً من الغزلان النافرة أو أرانب برية تركض في البرية الواسعة.. كان يتمنى أن يبقى على وجه الأرض وتبقى أشياؤه، ولكن سرعان ما يراها تفنى ويعلم أنه في الطريق ماضٍ وأنه فانٍ.. كان يفكر أنه ربما يبقيها إذا ما حفر صورها على جدران المغارات وفي صخور الكهوف والأهرامات ويبقى فيها.. منذ ذلك الوقت البعيد بدأت الأساطير وبدأ الإبداع.
ربما تعجبك سحابة تركض في الفضاء الرحيب تعيد تشكيل نفسها مرات ومرات وهي تشرب أضواء الشفق الحالمة فتبدو عقوداً من عقيق، أو نجيمات يرتجفن وهن يتبردن في البركة تسري فيها نسيمات السحر الباردة، أو دوحة غناء تتثنى فروعها عند الضفة تلثم النهر وهي تلقي عليه في عشق حميم ثمارها وأزهارها فينداح دوائر من شوق ثم يمضي مرحاً يُغني لا يلوي على شيء.
ولكن النجوم تمحي والبركة يغلي ماؤها في لهيب ظهيرة الصيف الحارة، والدوحة تصوح أغصانها فإذا هي أيادٍ بأصابع عجفاء تتضرع: ليته يعود الربيع، والسحابة تتماهى في البحر الأجاج.
ولكن هذه الصور بكل لذاذاتها ومتعها تبقى في بيت شعر أو في لوحة فنية أو صورة أو في رواية كما بقيت أحياء القاهرة القديمة ومقاهيها في روايات نجيب محفوظ وانزالت واقعاً من على وجه الأرض.
يعمد الانطباعيون من الرسامين إلى اقتناص لحظة معينة تكون مكتنزة بالمعاني ومفعمة بالحركة والضوء يصورونها لحظة واحدة تحمل في داخلها اللحظات جميعها، ربما صور أحدهم امرأة جالسة في غرفتها في دعة تقرأ في جريدة أمام نافذة في لحظة يتدفق فيها ضوء يتكسر على السدف المدلاة، وعلى جزء من الصحيفة وجانب وجه المرأة الذي يفيض ساعتها بأسرار تُفسر ولا تفسر، وهي متدثرة بغطاء تكاد زهور فيه تفوح بعبقها.. تموت صاحبة اللوحة ويموت الرسام ولكنهما باقيان هناك في أزمان تمضي ولا تنتهي.
يرينا المبدع صوراً نمرّ بها كل يوم نراها ولا نراها، ننظر إليها ولا نبصرها، حتى إذا صاغها كلمات أو لونها بضربة فرشاة تحركت نحونا وتكشفت أسرارها وكأنها ولدت لتوها.
ليلى وعزة وبثينة ظللن باقيات على مر العصور وقد بلين صوراً تثير الخيال، وبقي جميل وقيس ابن الملوح.. أراد خليفة -غاب عني اسمه- أن يرى بثينة التي ذهبت بقلب جميل وعقله كل مذهب، فلما مثلت أمامه رأى عجوزاً عجفاء تدب دبيباً، وبخيبة الأمل كلها سألها مستنكراً: (ماذا رأى جميل فيك حتى قال كل الذي قال):
أجابت: (ما رآه الناس فيك حينما ولوك عليهم)... كان الخليفة عندها ينظر إلى ظاهر الصورة.. إلى الصورة الواقعية وغابت عنه الصورة الإبداعية، ولو فعل لرأى في تلك العجوز العجفاء كاعباً فارهة تموج بالدلال والحسن المستحيل.
أبو الطيب.. ملأ الدنيا إبداعاً وشغل الناس ومازال يملؤها ويشغلهم.. يجادل حصانه ويجادله وهو يكاد يحرن عند الخروج من شعب بوان وإن كان من أطيب الخيل.. إن حصان أبي الطيب يلقي بكل حججه الدامغة طالباً البقاء ويؤيده أبو الطيب في صور تموج بالحركة والحياة. إن المكان جنة من جنان الأرض ولكن من يسعى إليه أبو الطيب يستحق أن يُترك له المكان وتترك له الدنيا.
يجوس أبو الطيب وحصانه بين الأغصان المتدلية مخضلة بالرواء يتقطر نداها على عرف الحصان فينفضه فإذا هو بين خصص الضوء يتناثر كالجمان بين تلك الأشجار السامقة، يتسرب من بين أغصانه وأوراقها الكثيفة الضوء يبدو كالدنانير على ثياب أبي الطيب حتى يمد أنامله ليأخذ بعضها فتفر من بين أصابعه، دنانير كدنانير شعره تروغ من كل شاعر سواه ويمسك هو بها في إحكام يتصرف فيها كيف يشاء، هذه الجنة التي ترقد كالحلم بين النور والعتمة تتدلى من أغصانها ثمارها ولكنها تبدو من روائها وهو يرى ماءها من خلال قشورها وكأنها (أشربة) وقفت ثمّ هناك من غير آنية كما قال البحتري عن الماء يبين في الزجاجة:
يخفي الزجاجة لونها فكأنها
في الكف قائمة بغير إناء
هذه الجنة تجري من تحتها الأنهار صافية تداعب حصاها فتبدو كصليل حلي في أيدي الغواني:
وأنت هنا تمضي أو يمضي الجدول نحوك تكاد لا ترى الجدول، بل أولئك الغواني الفاتنات حولك يتضاحكن ويتمازحن والأساور في معاصمهن البضة توسوس وهي تسعى جاهدة نزولاً وطلوعاً، فثمة رابطة وولع بينك وبين الجدول أضحت أكبر وأعمق.
طبت فرساننا والخيل حتى
خشيت وإن كرمن من الحران
غدونا تنفض الأغصان فيها
على أعرافها مثل الجمان
فسرت وقد حجبن الشمس عني
وجئن من الضياء بما كفاني
وألقى الشرق منها في ثيابي
دنانيراً تفر من البنان
لها ثمر تشير إليك منه
بأشربة وقفن بلا أواني
وأمواه تصل بها حصاها
صليل الحلي في أيدي الغواني
وأبو الطيب الذي عودنا في شعره أن يتجاوز كل خط ممكن أو مستحيل إلى المعاني العظام، يتجاوز مرات ومرات خطوطاً حمراء، فيضع في فم حصانه الذي يكاد يبذه حجاجاً وإبداعاً أشد العبارات استنكاراً مبيناً رفضه الشديد لما ينويه الشاعر بسخرية لاذعة تطاله بل وتطال الجنس البشري بأجمعه:
يقول بشعب بوانٍ حصاني
أعن هذا يسار إلى الطعان
ولقد وصل أبوالطيب في هذا المعنى أدبياً إلى أقصى ما يمكن أن يقنعك به إلى جمال المشهد، وبالتالي إلى عظم الممدوح الذي يفارق هذه الجنة من أجله، وإن لم يكن في الوقت نفسه موفقاً، هو ولا حصانه، في أدبيات الحوار الرشيد.
وهكذا يزول واقع الأشياء ليبقى تاريخاً أو لا يبقى، أما الإبداع، ذلك الذي يمتعنا بلذاذات الدهشة أو يدهشنا بلذاذات المتعة، فهو باقٍ ويذهب زبد ما سواه -في سوق الفن والأدب- جفاءً.