مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

حتى لا يضربنا المثَل!

لا يخفى أن للأمثال خصوصية فارقة عن أجناس الموروث الأدبي الأخرى، ففيها مفارقةُ: احتواء الشكل الأدبي الأشدّ إيجازاً لاتساع أسلوب الحياة، وهي نتاج مواقف واقعية وحقائق اجتماعية تشكل القناعة، وقد تصنع الموقف عند المرور بما يماثله. فالمثَل، بمعناه المعجمي: المماثل أو المشابِه، وهو كما أشار معجم (LAROUSSE) الفرنسي: (جملة قصيرة، شائعة الاستخدام، تدل على صدق التجربة أو النصيحة والحكمة، يرجع إليها المتكلم). وخطورة الأمثال تكمن في تملّكها قوة ناعمة، تمكنها من تسيير ثقافة المجتمع الذي يقف بالتقادم عند أبعادها الظاهرة دون جرأة المساءلة. ولا أعني بالثقافة هنا مجموع المعارف التي يتحصل الفرد والمجتمع عليها، بل الثقافة من حيث هي رؤية عميقة للحياة والأشياء والآخر.
باعتقادي أن مسألة التلقي السلبي للتراث الأمثالي، والاستعداد المفرط للتسليم بمقولاته؛ لا يدخلان في فلك الوفاء للمرجعية التاريخية؛ بل هو تقديس لكلام ٍتولد عن زمنه وبيئته وظرفه ومناسبته. هذه القدسية تنفي عنّا ميزة العقل الناقد، وتحيلنا إلى حلقة تتموضع ضمن سلسلة طويلة من الرواة الذين ينحصر دورهم في نقل المرويات عن سالفيهم إلى لاحقيهم لا غير.
إن في خطابنا التراثي والشعبي كثيراً من الأمثال التي أوسعناها ضرباً على خطل وضحالةِ معناها، وللنمذجة يُقال: (ما طارَ طيرٌ وارتفع، إلا كما طار وقع)، والمنطق يلجئ إلى حتمية السؤال: أيلزمُ أن يقع الطير المُرتفع لتأخذ العبارة صيغة الحصر (ما - إلا)؟ ولمَ نبذل جهداً في الارتفاع إن كنا سنسقط حتماً؟
مثل آخر يرسّخ حالة الرضا بمفهومه السلبي: (الباب الذي تأتي منه الريح سدّه واستريح)، وإثبات الياء لإرادة السجع، ولعل هذا السجع شرَك إيقاعي يمرر المعنى إلى عقل المتلقي دون مساءلة. ولو كان للعقل أن يتحرر من سلطة المثل لكان السؤال: أوَ كلّما هبّت ريحٌ سيُغلق الباب؟! ألن تتكاثف الرياحُ حتى تقتلع البيت بأكمله لأنه ببساطة بيت هشّ؟
(شاوروهن واعصوهن)، مثل شعبي ما يزال متداولاً ومعمولاً به في بعض المجتمعات، والضمير يعود إلى النساء، ومفهومه واضح، وإن طُرح السؤال عن فائدة الاستشارة بنية العصيان، فالجهيمان في مؤلفه الريادي (الأمثال الشعبية في الجزيرة العربية) يقول: (وقد يكون معنى المثل: أنك تستطيع أن تعرف وجهة الحقيقة من خلال الاتجاه الخاطئ)، فالاستشارة إذن هدفها معرفة رأي النساء بنية مخالفته، فرأيهن خطأ لا محالة!
على أن من الأمثال ما يبدو منطقياً، لو أحسِنت صياغته، بعيداً عن التعميم الذي يؤصل التوجس في التعاملات، بما يجني على رفاهية الركون إلى الثقة المستحِق، ومنها قولهم: (مِن مأمنه يؤتى الحذِر) ولو أُضيفت (قد) قبل المضارع المجهول لأُثبتت الحالة، وقُلل الحدوث.
المقامُ ضيّق، وهذا غيضٌ من فيض أمثالي يخلق ديكتاتورية لغوية تُعشِي بصيرة التلقي ببرق التبجيل المفضي إلى انهمار التسليم. على أن ما مضى يستدعي القيام بجهد نقدي، يحلّل الخطاب الأمثاليّ العربي، ليُصحح ويؤسس لفكر منطقي. فالأمثال ذاكرة تتداولها الأجيال، ولا يجدر بنا أن نخلّف ذاكرة مثقوبة، تُمرر الغثّ والسمين كما فعلها الأولون، وإلا فسيضربنا المثل من حيث اعتقدنا أننا مَن يضربه.

ذو صلة