أصبحت التكنولوجيا في عالمنا المعاصر جزءاً أساسياً في حياتنا، ورفيقنا الدائم في حلنا وترحالنا، وعلى الرغم من الفوائد الجمة التي ترفدنا بها هذه التكنولوجيا، إلا أنها تحمل في طياتها الكثير من السلبيات التي تزداد كلما تسارع تقدمها في مضمار العلم والمعرفة، ولخطورة هذه السلبيات وجب علينا أن نقف أمامها وقفة الجاد المستريب الذي يأخذ أصوات نواقيس الحذر على محمل الجد.
لا يخفى على مطلع أن التقدم التقني المذهل يساهم بشكل مضطرد في زيادة كفاءة الإنتاج ورفد مخرجات العمل، والذي يؤدي بدوره إلى تحسين جودة الحياة بشكل عام، ويتضح ذلك جلياً في التكنولوجيا المتعلقة بوسائل الاتصال، مثل الهواتف الذكية وشبكة الإنترنت وكيف أسهمت في تغيير حياتنا وتسهيلها بحيث أصبحنا لا نستطيع الاستغناء عنها. كما يسهم التطور المستمر للتكنولوجيا بوضوح في زيادة سرعة وصولنا إلى المعرفة والمعلومات أكثر من أي وقت مضى، مما يسهل عملية التعلم وزيادة فرص الابتكار.
وعلى الرغم من كل ذلك إلا أن النواحي السلبية تأبى إلا أن تبث الرهبة في نفوسنا كلما حدث تسارع جديد في هذا المسار، والواقع يؤكد الحدس، فالتطور التقني أصبح سبباً في فقدان كثير من العاملين لوظائفهم نتيجة استبدال العمالة بالآلات والروبوتات، علاوة على انتهاك الخصوصية واختراق البيانات الشخصية، ويستمر سيل السلبيات والذي يتخطى المسائل الحسية إلى التأثير السلبي على الصحة النفسية بسبب الاعتماد المفرط على التكنولوجيا.. وأخيراً الرعب الذي يكتسح العالم نتيجة التطور المذهل لأنظمة الذكاء الاصطناعي والذي اتضح جلياً أن المخاطر التي يحملها في طياته أكبر من كل التصورات.
التقدم التقني والبيئة من حولنا
ساهمت التكنولوجيا الحديثة بصورة لافتة للنظر في تطوير القطاع الزراعي وقطاع الإنتاج الحيواني، حيث يتم استخدام تقنيات الاستشعار عن بعد عبر الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة في استخراج تقارير علمية تحدد بشكل علمي كل ما يتعلق بالمساحات الخضراء التي تم تصويرها مثل صحة النبات ومستوى الري وظهور الآفات وغيرها والتي بلا شك كانت قفزة بعيدة في النهاية بالنسبة للإنتاج الزراعي، كما وأن ذات التقنيات ساهمت في رصد تمدد الزحف الصحراوي وبالتالي ساعدت العلماء في وضع خطط تساهم في الحد من هذا الطوفان الذي يقضي على الأخضر واليابس، ولم يكن غريباً أن نجد التطور التقني حاضراً في مجال الإنتاج الحيواني وذلك باستخدام حساسات متطورة لها القدرة على رصد المؤشرات الحيوية في جسم الحيوان مما ساهم في زيادة الإنتاج بصورة مذهلة، هذا ولا يفوتنا أن نشير إلى مساهمة هذه التقنيات في مساعدة العلماء في تتبع هجرات الطيور والحيتان والحيوانات النادرة بالإضافة للتتبع الدقيق في التغيرات البيئية بصورة عامة والذي يجنب البشرية كوارث بدأت آثارها في الظهور مثل ظاهرة الاحتباس الحراري والتي بدورها تصلح أن تكون مدخلاً لإلقاء نظرة خاطفة على سلبيات التقدم التقني على البيئة، فلا شك أن الشراهة المفرطة في استخدام الوقود الأحفوري أدت الى انبعاثات ضارة تسببت في رفع حرارة الكوكب ونتج عن ذلك الكثير من الكوارث كالفيضانات والأعاصير وحدوث ثقب طبقة الأوزون، هذا فضلاً عن الاستهلاك الضخم للموارد الطبيعية بسبب هذه التقنيات والذي تسبب في تقلص الغابات والمراعي وكذلك لا يفوتنا أن نشير إلى الخطورة الكبيرة التي تحدث بسبب التلوث الإشعاعي الصناعي وانتشار المواد السامة في كثير من مصادر المياه العذبة، هذا التلوث أياً كان شكله ومصدره فهو يفاقم ما ذكرناه سابقاً من آثار سلبية على البيئة من حولنا، والآن يقر العلماء بانقراض سلالات من الكائنات النادرة في البحار بسبب هذا التلوث، بل ووصل الأمر إلى التلوث الفضائي حيث تدور من حولنا أطنان من النفايات والتي تتزايد بخروج الأقمار الصناعية والمحطات الفضائية القديمة عن الخدمة.
التقدم التقني والجنس البشري
اليوم، وبسبب هذا التقدم التقني الهائل، نسافر من نيويورك إلى دبي في ساعات قليلة ونحن نجلس على كرسي وثير، نتصفح مواقع الإنترنت ونشاهد القنوات التلفزيونية ونلقي نظرة على النافذة فنشاهد السحب البيضاء تحتنا والمسطحات المائية وأنوار المدن الزاهية وكأننا في نزهة ماتعة، ويجلس أحدنا في سيارته آمراً إياها بالذهاب إلى موقع العمل حيث تقوم السيارة -ذاتية القيادة- بتولي أمر القيادة بينما يتنقل هو بين محادثات واتس آب ومشاهدة فيديوهات تيك توك وقراءة تغريدات منصة إكس! ولست أستبعد أن يأتي يوم تتحول فيه السيارة من دابة تجري على الأرض إلى طائر يحلق في السماء وقد بدأت التجارب فعلياً على أنواع من هذه السيارات الطائرة -إن صح التعبير- لكن الطريق لا يزال في بدايته.
لقد شدتني عبارة لمخترع أمريكي اسمه (وودي نوريس) على منصة -تيد- استطاع في أهم اختراعاته من توجيه الصوت مثل الليزر، قال: «لم يتم اختراع شيء حتى الآن، إننا لا نزال في بداية الطريق!». فأصبحت كلما اشرأب عنقي للوحة فنية زاهية من إنتاج هذا التقدم التقني المذهل أتعجب أكثر وأنا أحاول تخيل كيف سيكون الأمر في السنوات الآتية؟ لأن كل ما نراه الآن ما هو إلا البدايات!
ولكن، وعلى الرغم من هذه الثورة العلمية الكبيرة والإنتاج الصناعي المذهل وتسارع الابتكارات في كافة مسارات الحياة -الضروري منها والترفيهي- إلا أن هذا الخير الذي نتفيأ ظلاله كجنس بشري يحمل على أكتافه شراً مرعباً نتطرق إلى اليسير منه فيما تبقى من هذا المقال ويبقى الجانب الخفي منه أدهى وأشد مرارة وقسوة.
على المستوى الفردي، يؤدي التقدم التقني إلى الانعزال الاجتماعي بسبب الانشغال الزائد بأجهزة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي؛ مما يؤدي إلى فقدان التواصل الشخصي وتفكك رابطة العلاقات الاجتماعية على نطاق الأسرة الصغيرة خاصة والكبيرة عامة، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل قد يؤدي الاعتماد الشديد على التكنولوجيا إلى نتائج أكثر سلبية، مثل فقدان المهارات الأساسية عند البشر والتبعية التي تشبه الاستعباد نتيجة الإفراط في الاعتماد على هذه التقنيات، ويصل الأمر كثيراً إلى حد -الإدمان- الذي يتطلب مقاومة شديدة للتراجع عن تياره الجارف أو البحث عن معالج نفسي بحثاً عن وصفة علاجية ناجحة، ولا شك أن هذا الأمر لا يتوقف عند الإدمان بل يتعداه إلى الصحة النفسية والجسدية، حيث يعاني الكثير من الأشخاص المدمنين على أجهزة الجوال ووسائل التواصل الاجتماعي من إجهاد العين والصداع النصفي بسبب استخدام الشاشات بشكل مفرط. كما أن التحديق المستمر في أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية يمكن أن يؤدي إلى قلة النشاط البدني وزيادة مخاطر السمنة والأمراض المزمنة، إضافة إلى الأرق المفرط وحالات الاكتئاب الحاد الذي يسببه الإحباط النفسي نتيجة المقارنة مع أشخاص يظهرون على وسائل التواصل الاجتماعي بمظهر الناجحين الذي يعيشون حياة مثالية لا توجد فيها أي مشاكل أو تحديات.
أما في جانب الخصوصية والأمان فقد ازدادت التحديات الأمنية والتهديدات للخصوصية بصورة كارثية، فالمعلومات الشخصية أصبحت عرضة للاختراق والاستغلال من الغرباء والأشرار، مما يجعل من الضروري اتخاذ تدابير أمنية على نطاق الأفراد والمؤسسات مثل مضادات الفيروسات وأنظمة الجدر النارية وغيرها، ويزداد هذا الخطر عند الأطفال الذين يستخدمون أجهزة الجوال والكمبيوتر الخاصة بالآباء حيث تصبح المعلومات الخاصة بالأسرة سواء كانت اجتماعية أو مالية في مهب الريح، أما الرعب الحقيقي فهو الذكاء الاصطناعي الذي لا تبشر بداياته بالخير، فقد أصبح في مقدور الأفراد الذين لا يمتلكون مهارات خاصة من استخدام برامج الذكاء الاصطناعي في إنتاج فيديوهات لضحايا لا علاقة لهم بما تم إنتاجه، ويتم في هذه الفيديوهات مطابقة البصمة الصوتية للفرد مما يوحي للعامة بصحة الفيديو والذي يمكن استغلاله في الابتزاز، أو تشويه سمعة الشخص أو الأسرة ويتعدى الأمر هذه الجانب إلى مستقبل قريب سنضطر فيه إلى فحص كل الفيديوهات التي ترسل إلينا عبر وسائل التواصل الاجتماعي باستخدام برامج كشف التزوير التي تبحث عن خوارزميات الذكاء الاصطناعي في الفيديو المعني، ويمكنكم تخيل حجم المعاناة التي تنتظرنا إذا لم يتم لجم هذا المارد المخيف.
كما يذكرنا الذكاء الاصطناعي بما حدث في بواكير النهضة الصناعية، حيث تم استبدال العمالة اليدوية في المصانع -على سبيل المثال- بالماكينات مما أدى إلى ارتفاع مستوى البطالة، أما اليوم فقد قفز الذكاء الاصطناعي إلى مكاتب الموظفين ليحل بديلاً لهم في كافة المجالات، فالذكاء الاصطناعي بإمكانه اليوم القيام ببرمجة التطبيقات وتصميم مواقع الإنترنت والإعلانات وقراءة المقاطع النصية كبديل حقيقي للمذيعين وكتابة المقالات وتحليل المنشورات العلمية وأشياء أخرى كثيرة لا مجال لذكرها، وكل ذلك في ثوانٍ معدودة! ولا شك أن هذا الأمر سيلقي بظله الثقيل على مسألة البطالة وسيضعنا في مواجهة العراقيل الشاهقة التي ستجعل من معالجة هذه المشكلة الكبيرة أمراً بالغ التعقيد.
إننا إذ ندق ناقوس الخطر لا نهدف إلى بث الرعب في نفوس الناس ولكن علينا جميعاً ألا ندفن رؤوسنا في الرمال، فالتقدم التقني ماضٍ في طريقه، حاملاً بين يديه الخير والرفاهية للإنسان وعلى أكتافه شر لا نعلم عنه إلا القليل، إننا اليوم في مواجهة مباشرة مع تحديات كبيرة لا يمكن تخطيها إلا بتضافر الجهود وتطوير إستراتيجيات مبتكرة مثل تحوير مهارات القوى العاملة لتكون ملائمة لسوق العمل المستقبلية لضمان توفر فرص العمل الجديدة التي يولدها هذا الإنتاج التقني في كافة القطاعات، وكذلك رفع مستوى الوعي بالنسبة للأفراد في البيت وفي المؤسسات التعليمية وقطاع الأعمال، وهذا الوعي سينعكس إيجاباً على الواقع المستحدث في هذه الرقعة الجديدة التي رسمتها التكنولوجيا الحديثة والتي يجب أن نجيد فيها تحريك القطع بدقة متناهية وفق مفهوم الفعل ورد الفعل.