من الثوابت في الفكر النقدي التعامل بموضوعية مع الإشكاليات التي تطرح اختلافات في وجهات النظر، إذ لا حقيقة نهائية يمكن أن تنتهي إليها المواقف ما دام الأمر مثار جدل وتنازع بين الدارسين والباحثين، ذلك أن هذه المواقف والرؤى تقترن في الغالب برؤية ذاتية تحركها وتستبطن توجهات أصحابها فيها. إلا أن ما نلاحظه في بعض الأحيان قد يجعل من هذه الفكرة بعيدة عن التحقق فتسيطر -تبعاً لذاك- النظرة الواحدة والفكرة الواحدة، ويصبح الخوض في بعض المسائل إيذاناً باستعراض وجهة نظر أحادية.
وليس بعيداً عن هذا التوجه نحاول طرح قضية التقدم التقني وصلتها بتكوين المعارف الذاتية للأفراد والمتعلمين، وذلك بوصفها مشغلاً أساسياً من مشاغل حياتنا اليومية؛ فقد صار الخوض فيها حتمية وضرورة قصوى لملامستها كل تفاصيل الحياة في عصر أمست فيه العولمة والذكاء الاصطناعي بديلاً عن الكتاب ومصدراً أول للمعلومة. ولكن السؤال الحقيقي والحقيق بالدرس في هذا الموضع يبقى: إلى أي مدى يمكن الوثوق في هذه المعلومات الإلكترونية؟ وأي مستوى معرفي وثقافي يمكن أن يكتسبه المتعلم متى اعتمد التقنية مادة ومرجعاً للمعلومة؟
لا ريب أن التحولات التقنية العميقة التي شهدتها الإنسانية أفاضت بخيراتها على العالم ومثلت له رفاهية فارهة فأعانته على تسهيل حياته والسير بها نحو سرعة وراحة أكبر، فبات مرتاح البال واثق اليقين في كل ما يعرض أمامه من معلومات ومعطيات دون الحاجة إلى البحث والتدقيق، هذه الطمأنينة التي أخذت في الانتشار حتى مست النواة الأولى للمجتمع وهي العائلة، إذ ترى الأطفال ومنذ نعومة أظافرهم غارقين في هذه الآلات العجيبة دون عين ترصدهم أو توجههم لأن الغاية تسويقية تجارية لا تراعي التكوين أو تطوير المعارف لهذه الفئة العمرية الحساسة، ومتى أراد الواحد منهم البحث عن سؤال ما أو معلومة نجده ينجرف وراء هذه المحركات الإلكترونية ومفاتيح البحث قانِعاً بهذه السرعة والسهولة، همه في ذلك الحصول على إجابات تغنيه مشقة القراءة والمطالعة، ولعل هذا ما يفسر تراجع المستويات المعرفية لدى طلاب المدارس والجامعات، إذ تؤكد الدراسات الإحصائية أن نسبة المطالعة في تراجع مستمر في كل سنة طالما أن هناك آلة وتقنية تتكفل بمهمة القراءة والتلخيص والمراجعة وإعطاء المعلومة جاهزة مما يكرس بعض السُلوكات السلبية في الفضاءات التعلمية والعائلية والمجتمعية، إذ تتراجع قيمة الاجتهاد والعمل وتتكرس في مقابل ذلك جملة من القيم الأخرى السلبية من قبيل التهاون والتكاسل. فقد كشفت دراسة للمركز الوطني للإحصائيات في الولايات المتحدة الأمريكية أن نسبة 64 % من الطلاب لا تتوفر لديهم الكفاءة الكافية للكتابة والقراءة، مرجعة ذلك إلى مناهج التدريس التي خيرت الاعتماد المكثف على المعلومة الإلكترونية والتقنية دون الوعي الكافي بخطورة هذه الخطوة.
ثم إن الخطورة الحقيقية تبقى من وجهة نظرنا هي مدى صحة هذه المعلومات التي يستهتر أبناؤنا في التعامل معها وكأنها الحقيقة المطلقة غير القابلة للجدال أو المناقشة، فلا يخفى على الجميع ما يمكن أن تُحَمل به هذه المواقع من أبعاد أيديولوجية وأخرى سياسية ونفسية وحتى عقدية فتكون بذلك بمرتبة مراكز استقطاب وتوجيه ينجرف إليها الأطفال والشباب دون أن يكون لديهم الوعي الكافي للتقييم والفهم.
ولا تقف تداعيات التقنية وخطورتها عند هذا الحد وإنما تتعداها إلى ممارسة نوع من المغالطة والوهم الزائف فلطالما سعى أصحاب هذه المشاريع إلى تسويق صورة نموذجية للعبقري الذي لا يقهر، إلا أن الحقائق والوقائع قد تأتينا مغايرة لذلك، فتتهاوى أطروحة هذا العملاق ويتبدد سلطانه بلا رجعة، والأمثلة عن ذلك كثيرة متعددة فليس أدل من انتصار الفيلسوف والإعلامي البريطاني (رافائيل إينتهوفن) Raphaël Enthoven على الذكاء الاصطناعي (تشات جي بي تي) في مرحلة الباكالوريا وحصوله على درجة أفضل من هذا البرنامج، على الرغم مما يتيحه الأول من اقتباسات قد تجعل من موازين القوى غير متكافئة.
إن ما يعنينا في هذا السياق هو ما تحاول التقنية التأسيس له وبثه من أفكار لدى الناشئة، فرغم هذه القيمة والأهمية المتزايدة للذكاء الاصطناعي -والتي باتت واقعاً لا يمكن التغافل عنه- فإن ذلك يبقى في حاجة دائمة إلى المراقبة والإرشاد والمراجعة، ذلك أنها (التقنية) تسعى إلى تكوين ثقافة بديلة تغيب فيها جميع مقومات الإحاطة والرعاية، إذ تبقى الناشئة في حاجة ماسة إلى الموازنة بين التقني والتعليمي وخصوصاً إلى عملية اختيار دقيقة لمصادر المعلومة وإلى يد تمسك بزمام الأمور فتتعامل بكل رصانة مع ما يقدمه لنا الذكاء الاصطناعي حماية لنا ولناشئتنا. من أجل أن يكون الذكاء ذكاء حقيقياً مبنياً على أسس قويمة.