مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

الشر المحمول على أكتاف الخير

غيرت الثورات الصناعية وجه العالم، إذ بعد ثورة الآلات البخارية التي قدمت طرقاً جديدة للتصنيع، وحولت ثورة الكهرباء شكل الصناعة بشكل تجاوز الثورة الأولى، ليأتي عصر اكتشاف الحاسوب الذي مثل ثورة صناعية ثالثة، واحتاجت عقدين من الزمن فقط لتعم دول العالم، قبل الوصول للثورة الصناعية الرابعة ذات التغيرات المتسارعة التي تستهدف الشركات والحكومات والصناعات والحياة اليومية للأشخاص والمجتمعات حول العالم.
وتتباين مواقف المهتمين بتطور التكنولوجيا والثورة الرقمية، فمنذ اكتشاف الحاسوب والإنترنت، مروراً بانتشار منصات التواصل الاجتماعي والتطبيقات الذكية، ووصولاً إلى البيغ داتا والميتافيرس وثورة الذكاء الاصطناعي، وما سيتبعها من ثورات قادمة تنبئ بتحولات مجتمعية ستتلو ما يتعارف عليه اليوم بالثورة الرابعة -ثورة المعلومات والتقدم التقني-، والتي يختلف في تقييمها المؤيدون والرافضون، ويؤكد المبشرون بحياة أفضل، أن (هناك شيئاً مهماً جداً وعميقاً يحدث لحياة الإنسان.. ثورة رابعة في عملية خلع وإعادة تقييم جوهر طبيعتنا ودورنا الأساسي في الكون). بينما يصف الرافضون الثورة الرابعة بكونها دكتاتورية خفية تهدد الإنسان، وتؤسس للتحالف (بين البيغ داتا وعالم الاستخبارات من أجل وضع الإنسانية تحت رقابة غير مسبوقة. فلا وجود لنص تشريعي أو تنظيمي يمكن أن يقف في وجهه، فما ستتنازل عنه البيغ داتا وحلفاؤها في الظاهر، ستتم استعادته بمساعدة تكنولوجيا لا يستطيع المشرعون مسايرتها).
التطور التكنولوجي في المغرب.. أرقام ومؤشرات
تؤكد آخر إحصاءات الولوج للإنترنت حجم التطور التكنولوجي، وبلغ عدد سكان العالم في يناير 2023، أكثر من ثمانية مليارات وعشرة ملايين شخص، وارتبط بالهاتف الذكي أكثر من ثمانية مليارات و460 مليون شخص، ويتصل بالإنترنت أزيد من خمسة مليارات و160 مليون فرد، بينما يملك أزيد من أربعة مليارات و760 مليون فرد حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي.
وتؤكد الإحصاءات الخاصة بالمغرب، لشهر يناير 2023 المنشورة في موقع https://datareportal.com/reports/digital-2023-morocco أن عدد السكان وصل أزيد من 37 مليوناً و650 ألف نسمة، وبلغ عدد مستخدمي الهواتف الذكية أزيد من 50 مليوناً و190 ألف شخص، ويرتبط أزيد من 33 مليوناً و180 ألف شخص بشبكة الإنترنت، فيما يملك أزيد من 23 مليون شخص منهم حسابات شخصية على وسائل التواصل الاجتماعي.
وتضاعف خلال السنوات العشر الأخيرة عدد المتصلين بالإنترنت الذي كان يبلغ 15 مليوناً و200 ألف شخص سنة 2012، ليصل أكثر من 33 مليوناً و200 ألف شخص في يناير 2023. وتضاعف عدد من يملكون حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي أربع مرات، ليتحول من ستة ملايين و200 ألف شخص سنة 2012، إلى أزيد من 23 مليوناً و800 ألف شخص سنة 2022.
تقنين الولوج للمعطيات الشخصية وحماية الحياة الخاصة
تقدم الإحصاءات السابقة التطور الهائل الذي عرفه المجتمع المغربي في علاقته بالثورة الرقمية، وسهولة الولوج للحياة الرقمية وما واكب ذلك من تنامي للظواهر السلبية للتقدم الرقمي، خصوصاً ما يتعلق باستهداف المعطيات الشخصية وإلحاق الضرر بالحياة الخاصة، وبعد ظهور تقنيات ومنصات جديدة لم تشملها القوانين، وبروز ظواهر جديدة بالمجتمع، وقصد ضبط الانفلات المتسارع لهذا التحول، وحماية حياة الأشخاص والمجتمع من التعامل السلبي، وأضرار استغلال الحرية المطلقة، وهو ما استدعى تدخلاً من الدولة المغربية لتقنين المعلوميات والتقدم التقني.
وانطلقت الإصلاحات التي شهدها المغرب في إرساء مجموعة من القوانين والتنظيمات من دستور المملكة، الذي وقع تعديله والاستفتاء عليه في يوليو من سنة 2011، ومن القوانين الدولية ومواثيق حقوق الإنسان التي تضمن حقوق الأفراد والجماعات.
وسارع المشرع المغربي إلى إرساء قوانين تضمن حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي، والحماية الجنائية للحياة الخاصة في المجال المعلوماتي، بما يحقق الموازنة بين الثورة الرقمية التكنولوجية ويحمي حياة الأشخاص والمجتمع ويضمن حقه في الصحافة والإعلام والحصول على المعلومات.
وخصص دستور المملكة المغربية لسنة 2011 بابه الثاني للحقوق والحريات يؤطرها 22 فصلاً من الدستور من الفصل 19 إلى الفصل 40، وهي التي أكد الدستور على تجريم المساس بها، منها فصول تحد من سلبيات التقدم الرقمي والثورة التكنولوجية، وهي الفصول 24 و27 و28 من الدستور التي يمكن إجمالها في:
-1 حماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي:
انتبه المشرع المغربي قبل دستور 2011 إلى ضرورة حماية المعطيات الخاصة من الثورة القادمة للمعلوميات، لذلك سارع إلى تنزيل القانون رقم 09.08 المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي، وذلك منذ 18 فبراير 2009، وتعلق حينها بطفرة في القانون المغربي استبق عصر سيطرة البيغ داتا Big Data لأول مرة في القانون المغربي، ويفصل بدقة الحق في الولوج إلى المعطيات الشخصية، وطلب تصحيح المعطيات الخاطئة أو مسح المعطيات ومعالجتها، أو التي انتهت صلاحيتها أو التي تحققت الغاية من معالجتها، بهدف حماية الحقوق والحريات الفردية والجماعية والحياة الخاصة وما يمس بها عبر استخدام المعلوميات.
-2  حماية الحياة الخاصة:
لتجاوز الفراغ القانوني المرتبط بالتطور الرقمي وسرعة انتقال الصور والمعطيات الخاصة انتبه المشرع المغربي في الفصل 24 من الدستور إلى ضرورة التنصيص على حماية الحياة الخاصة، فأكد أن (لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة. لا تنتهك سرية الاتصالات الشخصية، كيفما كان شكلها، ولا يمكن الترخيص بالاطلاع على مضمونها أو نشرها، كلاً أو بعضاً، أو باستعمالها ضد أي كان إلا بأمر قضائي ووفق الشروط والكيفيات التي ينص عليها القانون).
ورغم إقرار مدونة الصحافة والنشر بقوانينها الثلاثة، 88.13 و89.13 و90.13، وتأكيدها على مجموعة من المقتضيات، إلا أنها تبقى ضمن قانون خاص مقتصرة فقط على ممتهني الصحافة، فكان من الضروري لحماية حياة الأشخاص من التقدم التقني المصادقة على القانون رقم 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء، ودخوله حيز التنفيذ بتاريخ 13 سبتمبر 2018، وهذا القانون أقر مقتضيات تتعلق بحماية الحياة الخاصة، وتجاوز ما جاء في مدونة الصحافة والنشر يقصر حماية الحياة الخاصة على ما نشر في الجرائد الإلكترونية والورقية ولم يتجاوزها إلى التقنيات التي تظهر كل يوم مرتبطة بالتقدم التقني، وتوظيفها في انتهاكات خطيرة ألحقت الضرر بالأشخاص، وأضفى المشرع المغربي حمايته القانونية من الشر المحمول على أكتاف الخير، ولم تقتصر التجاوزات على الجنح والجرائم المدنية، بل أصبحت مشمولة بالعقاب بالقانون الجنائي المغربي، بعد تعديل الفصول 447-1 و447-2 و447-3 ويمكن تلخيصها في المقتضيات الجنائية التالية:
– منع التقاط أو تسجيل أو بث أو توزيع أقوال أو معلومات صادرة بشكل خاص أو سري دون موافقة أصحابها.
– منع تثبيت أو تسجيل أو بث أو توزيع صورة شخص أثناء وجوده في مكان خاص دون موافقته.
– منع بث أو توزيع تركيبة من أقوال شخص أو صورته، أو بث أو توزيع ادعاءات أو وقائع كاذبة.
يسعى المغرب كما العديد من الدول إلى ملاءمة قوانينه مع التطورات المتسارعة للتقدم التقني، وعقد حوارات ومناظرات حول الإعلام والحريات الخاصة وحقوق الإنسان، بيد أن هذه الملاءمة تخضع، كما في جل دول العالم، لظرفيات وشروط اجتماعية وسياسية ومؤسسية بمساعدة (تكنولوجيا لا يستطيع المشرعون مسايرتها، فقد تجاوزتهم تطوراتها وتعقيداتها المذهلة التي هي الآن في منأى عن منتخبين غير مؤهلين لفهم الرهانات الحقيقية المبثوثة ضمن زمن سياسي يتميز بالبطء)، وهي شروط تجعل الغلبة دوماً للتطور الرقمي والتكنولوجي المتغير في كل لحظة، فيما يبقى للمشرع والقانون محاولة تدارك ما فات والحد من مخلفات حرب يشنها علينا يومياً الشر المحمول على أكتاف الخير.

ذو صلة