مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

عن لؤم أن تلوم مصاباً

لست متابعة جيدة لحديث الأمهات في (جروب) المدرسة، شعوري يقترب من الانتماء ويبتعد عنه، هو شبه انتماء، وشبه انفصال، لأن محاولات الاندماج لم تنجح لتباين رؤانا التربوية، فتوصلت إلى أن أتبنى في التواصل مع الأمهات منطق: (كأن)، كأني قريبة، وكأني أنتمي، وكأني أنسجم، لكن العتب الغاضب لإحدى الأمهات جعلني أهتم، قالت إن ابنتها مريضة بتشوش في السمع يداهمها بعض وقت، وإنها تسأل في (الجروب) عن بعض التكليفات فلا تجد جواباً، قالت: ما فائدة الجروب إن لم نتعاون فيه، وإن الأفضل والحال هذه ألا نجتمع من الأصل، ثم استطردت: قلقة على أهلي في غزة، وحملي ثقيل مع مرض ابنتي، هذا كثير. لقد أعدت هنا صياغة كلماتها الغاضبة.
بادرت إلى تهدئتها، والاعتراف بالتقصير، وسارعت مجموعة من الأمهات إلى جواب سؤالها، ومواساتها، والاعتذار. شعرت أنهن يحتضنّ تعبها، وقد وصلها ذلك فشكرتهن، واعتذرت بكلمات مرتبكة عن حدتها.
حسناً، اكتشفت أني أنتمي، وأني أحب، وأني أقدر كل هذه السماحة من الأمهات، لم يركزن إلا على أنها مثقلة، متعبة، وأنها بحاجة إلى الدعم، لم تحجبهن كلماتها المتجاوزة غضباً عن أن لوم المصاب لؤم، وأن التعاضد يشفي ويصلح.
سماحة (لا أعلم)
لم نناقش أبداً الموقف، جرى نهر التواصل في (الجروب) بشكل أفضل، لا نترك سؤالاً دون جواب ولو كان الجواب: لا أعلم، سأسأل ابنتي عندما تستيقظ. حلّت فينا جميعاً روح التنبه إلى أن المراعاة واجبة وليست نفلاً.
هل حديث الأم عن قراباتها في (غزة) جعلنا أكثر تعاطفاً؟ ربما، هل أفاض (الهم المشترك) على (الهم الخاص) معاني الرحمة والبر؟
السماحة قوة، والمحاسبة عجز، ومن اختار أن يتشدد في جملة تعاملاته فإن مآل ذلك أن يضيِّق على نفسه، ويُضيَّق عليه.
وقاحة مستريحة
حديثي عن السماحة لا يغفل السياقات، لا شك أن هناك مواضع لا يناسبها إلا التأكيد على المسافة.
وضوح رؤيتنا تجاه أولوياتنا الأخلاقية يجعلنا نميز متى تكون السماحة واجبة أو شبه واجبة ومتى تكون نوعاً من الاستلاب، والظلم للنفس.
وضوح الرؤية يساعدنا في التفاصيل الصغيرة والكبيرة. ولعل هذا النص في رواية (الهدنة) لماريو بنديتي يمس تعقيدات فكرة السماحة: «الصراحة إن بعض القلوب لا تسرّني.
وأحياناً أكاد لا أصدّق مدى الوقاحة المستريحة، وطريقة الحديث الغامضة التي يفضي بها بعض الناس بأسرارهم الحميمة».
ما سمّاه الكاتب (وقاحة مستريحة) قد يكون كذلك حقاً، وقد يكون مظهراً من مظاهر النزف الذي نتج عن جراح عميقة، وتأذٍ نفسي بالغ.
كيف توازن بين حفظ حدودك وبين أن تكون مراعياً، يبدو أنها مسألة ترتبط بوضوح الرؤية الأخلاقية لديك، وبثقافتك النفسية، وبخبرتك الإنسانية، التي تجعلك تحسن انتقاء الكلمات التي تحميك ولا تجرح من لاذ بك.
تديّن يابس
قالت لي: كم من قريب ندرك بعد زمن طويل أن ما بيننا من قرب كان يعتريه بعض الغبش، وكم من تديّن يابس لا حياة فيه ولا خضرة. في مجلس ود، صفعتني قريبتي (المتديّنة) بتعليقها على قصة ذكرتها عن ظلم حاق بي. قالت: هذه غيبة لا تجوز.
لم تقصد قريبتها أن تكون لئيمة، لكن تعليقها كان لئيماً، وتدينها كان يابساً، والتديّن اليابس يحرم صاحبه نور الحكمة والرحمة، يقول الله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم...)، (النساء: 148)، وحديث المظلوم لقريب له عن ظالمه في سياق التوجع هو حق يعينه على التقوي والتجاوز. وهل تصان غيبة الظالم وتهتك مراعاة المظلوم؟ ومن فقه الأحناف قولهم إن المواجهة بالكلام المؤذي عمداً هو أشد من الغيبة. لوم المصاب لؤم، ولوم المظلوم لؤم آخر.

ذو صلة