نتغنى كثيراً بقيمة الأمثال الشعبية، ونراها عظيمة القدر، عميقة الوظائف، لطيفة الحضور، موجزة الرسائل، ولها أدوارها التي لا تنكر في دعم الفكر وتوجيه السلوك! فيُغنينا ذلك الإشعاع عن مساءلتها، ويُلهينا عن مراجعة حكاياتها، فنتباعد قليلاً عن الكشف عما هو كامن تحت بساطة سطحها، ونغمض العينين عن تعقيدات غالباً ما تَمرُّ وتُلاحظ، مغمورين بفكرة تجسيدها القيم الاجتماعية، والسياقات التاريخية!
لا أعلم شكلاً من أشكال الثقافة الشعبية تنطبق عليه لعبة الإظهار والإخفاء كما يتجلى في الأمثال، التي تواري منذ البدء مؤلفها، اعتماداً على صيغته الجمعية، واكتفت بالنسب إلى الشعبي بقناعة، مؤكدة ذلك بإصرار ومثابرة، وكأنها تستدعي الدعم والمساندة من الأشكال الأخرى، لإظهار فجوة التلاشي المؤقتة، ولا يعود الأمر إلى بنية المثل نفسها فحسب، بل يتصل إلى تاريخ علاقاته الثقافية، التي تمتد من لحظة التشكل الحكائي إلى لحظة التشكيل النهائي. وقد يرى بعض الدارسين أن للمؤلف الخفي، الذي أشرنا إليه، دوره في ترسيخ تلك الملامح التي يوشك أن يكسوها الظلام، فهو الذي يتوارى وراء الكلمات، ويتقنع بأدوات التعبير الإيحائي المقتضب، ومن ثم يخفي حكاية ما فتتوارى، ولا يظهرها بعد ذلك إلا متعمق، ولا يدرك تفاصيلها إلا دارس، لتظل حكايات الأمثال مستنداً توثيقياً خفياً، لا يظهر إلا عند الاحتياج إليه.
تتنصل الأمثال من كل علاقة قرابية، إذ تتجاهل ذلك الحكي التراثي الشعبي، تضامناً مع جلبابها الأول الذي أخفت به مؤلفها، فتباعدت عن الوفاء والبر بمؤلف وحكاية! ثم تظهر لدينا في قوالب مجازية تخفي بها ما تريده، فتتطلب تفسيراً. لهذه الجزئية أو تلك، كي تضيف طبقة من التعقيد، حيث الأبعاد الخفية التي نحتاج إلى التسلح بالفهم الثقافي لظاهرة ما.
تدعي الأمثال غالباً أنها تعبر عن حقائق متطابقة في جميع ثقافات العالم، لكن ما ندعيه أنه يمكن أن تتغير دلالاتها بشكل كبير عبر الثقافات، فما يُعتبر حكمة أو حقيقة في ثقافة ما قد يُفسر بشكل مختلف تماماً في ثقافة أخرى، يُوضح إدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق) كيف تتأثر النصوص الثقافية بالديناميات السلطوية والسياقات التاريخية! فالأمثال، رغم أنها تبدو محايدة، تعكس غالباً الأيديولوجيات السائدة في الثقافة التي أُنشئت فيها، وهذا يعني أنه بانتقالها عبر الاستعمار أو العولمة أو التبادل الثقافي تصبح مرنة، يمكن أن يتغير معناها، أو أن تستثمر لخدمة أغراض ما. وبينما تسهم الأمثال في كثير من الأحيان في تعزيز الأعراف الاجتماعية القائمة تتيح لنا بعض القراءات أن نصل إلى تناقضاتها، وأن نلحظ بعض الملامح الخفية، ويتمثل ذلك في البحث عن كيفية توظيف الأمثال لبناء ما هو سائد، وإعطاء الأصوات المهمشة حضورها، ولعل التجربة التطبيقية بمراجعة أمثال شهيرة تقودنا إلى الخفي عبر الجلي، وهذه الأمثال: (عاد بخفي حُنين)، و(الحيطان لها آذان)، و(الفضول قتل القطة)، ومن سمات الأمثال الثلاثة أنها على الرغم من ارتباطها المباشر بالإنسان والجماد والحيوان إلا أنها تحمل من التكثيف ما يستحضر الأنسنة ويوظفها.
نلحظ استناد المثل (عاد بخفي حُنين) على ثنائية واضحة تقوم على الربح والخسارة، وترسخ قصة المثل معنى محدداً، إذ إن طمع الأعرابي ومساومته، كغيره، على سعر الحذاء يؤدي إلى خسارة راحلته وأمواله! أما خداع وسرقة الإسكافي حُنين فيقود إلى الربح، لم يكن في فعل الأعرابي ما يدعو إلى الحقد وشراسة الانتقام، ولم يكن في فعل الإسكافي ما يقود إلى الشرف والرفعة، لكن الثقافة رسخت لفعل سرقة حُنين، وشرعت ما فعله من تحايل انتقاماً، لأن الأعرابي ساومه وصرفه عن زبائنه، هكذا تقول الحكاية! ولو كان لدى الإسكافي ما يشغله لما تتبعه في الصحراء للانتقام من فعل لا يستحق.
يمكننا أن نرى كيف أن المثل نفسه يقود، عبر قصته، إلى التلاعب بالتوقعات، حُنين يخدع الأعرابي ويجعل منه ضحية لخياراته، إن الخسارة التي يتعرض لها الأعرابي ليست مجرد فقدان الخفين، بل كانت خسارة على مستوى الوعي، ومثله يخسر قراء المثل وحكايته، الذين عليهم أن يدركوا أن المساومة على سلعة محظورة، وأن الانتقام والخداع والسرقة مباحة، لأن المثل أظهر صورة الطامع وضخمها وسخر منه، وأخفى صورة السارق وشرعها وعدها ذكاء وشجاعة.
أما المثل الثاني (الحيطان لها آذان) فيُشير إلى أن هناك دائماً من يسمع حتى عندما نعتقد أننا في أمان، وأن هناك من يفشي الأسرار مهما فعلنا. يعتمد المثل على استعارة مجازية، تقلب الثنائيات التقليدية بين الداخل والخارج، الآمن وغير الآمن، وهذه الاستعارة يمكن تفكيكها لتكشف عن التوترات الداخلية في فهمنا للمكان وملمح الخصوصية فيه، وإشباع معنى الحذر. يفترض المثل وجود ثنائية بين الكلام الخاص (الذي يتم في الداخل)، والكلام العام (الذي يُسمع من الخارج)، ولكن هذه الثنائيات ليست مستقرة، إذ تهدم قراءة المثل هذا الفهم البسيط المتمثل في الإشارة إلى أن الداخل يمكن أن يكون مكشوفاً تماماً كما هو الحال في الخارج، ليست الحدود التي نفترضها بين الآمن وغير الآمن حدوداً حقيقية أو مطلقة، إنها تخلق وهماً بالثبات، بينما هي في الواقع هشة وقابلة للاختراق.
يبدأ المعنى في (الحيطان لها آذان) بفكرة بسيطة: الحذر عند التحدث! ولكن هذا المعنى يمكن أن ينزلق ليشمل أفكاراً أعمق تجتاز إلى بث الشعور بخيانة من هم حولنا، وعدم الثقة بالآخرين. يجعلنا المثل ندرك أن مفهوم الأمان نفسه غير مستقر، فلا تأمن لصديق أو قريب، وفقاً للمثل، وأن هذا المفهوم يمكن أن يتغير بناءً على ظروف غير متوقعة. وبقراءة هذا المثل (الحيطان لها آذان) أو الاستماع إليه يتهاوى الفهم التقليدي للخصوصية والأمان اللذين يخفيهما، مما يجعلنا ندرك أن ما نعتبره ثابتاً ومستقراً قد يكون في الحقيقة هشاً وغير مضمون، ومن نثق في إيداعه بعض أسرارنا لا يمكن أن يستمر في ذلك.
ويوظف المثل (الفضول قتل القطة) بوصفه تحذيراً من الفضول، أو التساؤل عن الراهن، إذ يثبط هذا القول الأفراد والجماعات عن السعي لاكتساب المعرفة، أو مساءلة المعايير القائمة، ويدعو بدلاً من ذلك إلى ثقافة الثابت، ويعكس المثل خوفاً واسعاً من التغيير، حيث يُنظر إلى الفضول على أنه تهديد للسائد، ومن خلال تفكيك هذا المثل، يمكننا استكشاف كيفية استخدام اللغة لتثبيط التفكير النقدي والسؤال المعرفي.
تحمل معظم الأمثال الشعبية بذور تلك التوترات في داخلها، وأبعاد تلك التناقضات في سياقاتها، ويقود ذلك إلى جعل معانيها غير مستقرة، وقابلة لإعادة التفسير، ما يؤكد أنها لا ينبغي أن تؤخذ بوصفها أقوالاً جاهزة، بل هي نصوص مفتوحة، تخفي أكثر مما تعلن، وتمنحنا بكرم وعطاء باليد اليمنى ما يمكن أن تسلبه بقسوة باليد اليسرى.