الأمثال الشعبية إرث ثقافي يولد من رحم الشعب ونبضه الفطري، وهي ركن ركين من الثقافة العربية الشفهية، والعرب أمة تهتم بتراثها وتحفظ مروياتها. والأمثال أحد تلك المرويات النابعة من حياة الناس اليومية، فهي نتاج جمعي أبدعته العقلية الشعبية، لتعكس به نظرة الجماعة إلى الحياة والكون والآخر.
والأمثال بالجملة منها الفصيح والعامي، ولكل منها زمن سيادته وعصر عنفوانه، ومن ثم كانت عصور اللغة الأولى زمن تداول الأمثال الفصيحة وحفظها وروايتها، وقد وضعت في ذلك المصنفات الكثيرة، في حين سادت في زماننا هذا الأمثال العامية، التي يتداولها الناس بصيغ قد تنحرف عن الفصحى قليلاً، كما بقيت بعض الأمثال في منطقة وسطى بين الفصيح والعامي.
ولأن الأمثال صوت الإنسان النابع من واقعه وتجربته، فهي صورة لتجارب إنسانية عميقة، تتميز بالصدق والعمق، فجوهر الأمثال يتمثل في مغزاها والحكمة المستقاة منها، ومن أبعادها الاجتماعية والإنسانية الواسعة، مما مكّن لها بين الناس وأتاح لها فرصة البقاء والديمومة عبر العصور، في ذاكرة العامة والخاصة، لكنها ظلت أقرب إلى روح الإنسان البسيط من أجناس أدبية أخرى.
والإنسان الشعبي يميل بطبيعته إلى تجسيد الظواهر المعنوية، وإلى تجسيد حكمه وأمثاله التي توارثها عن أسلافه، ومن ثم مالت الأمثال إلى تصوير المعاني بصورة قصص ومناسبات لأشخاص، لما رأت ذلك أثبت في الآذان وأبقى في الأذهان، لاستعانة الذهن فيها بالمحسوس. وقد روي عن ابن الأثير قوله: إن العرب لم تضع الأمثال إلا لأسباب أوجبتها وحوادث اقتضتها.
ولأن لكل مثل حكاية أو حادثة، قد تسبق المثل وقد ترد تفسيراً له، فقد ضمّن الميداني مؤلفه الضخم في هذا الباب (مجمع الأمثال) أكثر من ألف حكاية، وهذا الأمر جعل علي عبدالحميد محمود يؤكد في كتابه: (القصة العربية في العصر الجاهلي) أن الأمثال تمثل جذوراً وأصولاً مضغوطة لقصص عربي جاهلي. وقد ذهب جرجي زيدان -أيضاً- إلى أن العرب يمتازون بأمثالهم المبنية على حوادث.
وعامة، فإن النصوص أو الحوادث المصاحبة لنص المثل لا يمكن الجزم -دائماً- بصحتها، وكذلك لا يمكن التحقق يقيناً من المثل من جهة النشوء، وهذا شأن كثير من المرويات الشفهية والآداب الشعبية. كما لا يمكن الفصل بين المثل والقصة التي تلعب دوراً كبيراً في تحديد مناسبته وعدم مناسبته للحادثة التالية التي يستخدم فيها. وقد اختصر عبدالسلام المسدي تلك المتاهة في عالم الأمثال بالقول: إن منطلق الدائرة مثل سائر يراد البحث في أصل نشأته، وخاتمة المطاف قصة تمخضت عن صياغة تعبيرية اطّردت فتواترت حتى جرت مجرى الأمثال، فلا تدري أكانت القصة مضرباً للسّمر فتحوّلت العبارة إلى مثل؟ أم كانت العبارة من الرّشاقة والسّبك بحيث تحوّلت الحادثة (قصة). وقد يختلف -أيضاً- في تحديد الجنس الذي ينتمي إليه قصص الأمثال، أهو قصص أم أخبار، أم حكايات، أم نصوص جامعة، أم مجرد تعاليق يسيرة، لا تعدو أن تكون تفسيراً لمضرب المثل. وتتداخل الأمثال الشعبية مع أشكال التعبير الشعبية الأخرى كالحكاية الشعبية التي استثمر كتابها ورواتها الأمثال، مفيدين من قصصها المعروف، ومضيفين إليه أحياناً، فمثلاً وردت حكاية المثل الشعبي (جوّع شعبك) المدونة في كتاب: (قالت حامدة: أساطير حجازية) للأديب عبده خال، لتحكي أحداثاً تحمل دلالة المثل القديم المذكور في كتب الأمثال العربية (أجع كلبك يتبعك). غير أن الحكاية الشعبية جاءت بتفاصيل مختلفة عن قصة المثل في كتب الأمثال. وقد ورد المثل في كتاب (مجمع الأمثال) بروايتين، الأولى: (جَوّع كَلْبَكَ يَتْبَعْك) والأخرى، (أجِعْ كلبك). وكلاهما يضرب في معاشرة اللئام وما ينبغي أن يعاملوا به.
وربما تكون حكايات الأمثال ذات أحداث واقعية صرفة، فمنها ما يحيل إلى وقائع تاريخية بعينها، أو تكون أحداثه واقعية، خالطها بعض التعجيب، فقصص الأمثال تصور الوعي الجمعي بغض النظر عن الآراء حول اعتبارها قصصاً واقعية أم قصصاً مصنوعة أو حتى خيالية، إذ لا سبيل لإثبات ذلك أصلاً، وأظن المتداول للمثل لا يعنيه كل ذلك، المهم هو مناسبته لمراده وغايته.
ومع كل هذا الغموض الذي يحيط بالأمثال وحكاياتها، فقد عدّت تراثاً فكرياً ومنتجاً أدبياً يستحق العناية، والعناية بالمأثورات الشعبية ظاهرة حضارية تدل على مستوى وعي الأمة ونضجها الفكري، فالأمثال الشعبية تتضمن ما يعبر عن ثقافة المجتمع وهويته، ليس فقط من الناحية اللغوية، بل -أيضاً- بما تحمله من قيم ثقافية، كالعادات والتقاليد والمعتقدات والمعارف والعلوم.
وقد بلغ من عناية العرب بالأمثال أن كثرت فيها المصنفات، وقد ذكر ابن النديم في كتابه (الفهرست) عدداً من تلك المصنفات، راصداً أقدمها ظهوراً وهو كتاب ابن عباش العبدي. والمصنفات في ذلك أكثر من أن تحصى، منها: كتاب (أمثال العرب) للمفضل الضبي، وكتاب (الأمثال) لأبي عبيدة القاسم بن سلام البغدادي، و(مجمع الأمثال) للميداني، و(المستقصي في الأمثال) لجار الله أبي القاسم الزمخشري.
وقد قام عدد من الباحثين العرب في العصر الحديث بجهود كبيرة لحفظ تلك الأمثال التراثية في أرجاء الوطن العربي، بحسبانها تراثاً وطنياً غير مادي، ومن تلك الجهود في المملكة العربية السعودية كتاب (الأمثال العامية في نجد) لمحمد بن ناصر العبودي، وقد صدر في خمسة أجزاء عن دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر في الرياض، عام 1979م، وكتاب (الأمثال الشعبية في قلب جزيرة العرب) لعبدالكريم الجهيمان، وصدر في عشرة مجلدات، عن دار أشبال العرب في الرياض، عام 1983م، وكتاب (الأمثال الشعبية في مدن الحجاز) لأحمد السباعي، وكتاب (معجم الأمثال الشعبية في مدن الحجاز)، الذي جمعه فريد عبدالحميد سلامة.
وعلى الرغم من كل تلك الجهود المبذولة لحفظ الأمثال وروايتها فقد بدأ حضورها بالتراجع في الثقافة المعاصرة، فمع تطور آلة العصر وثقافة الناس ومع سيادة القيم الفردية والتجارب الشخصية، وتغير معطيات الحياة، وتسارع إيقاعها، فقد تراجعت تداولية الأمثال في خطابات الناس وأحاديثهم اليومية، ولذلك أسباب كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر.
-1 الانفتاح المعرفي وازدهار العلوم والثقافات وانشغال الناس بمعطياتها العلمية وتناقلها.
-2 كثرة وسائط التقنية وشيوع وسائل التواصل التي يسرت للناس تناقل العبارات الفلسفية والمقولات العلمية.
-3 ضعف أواصر التواصل الاجتماعي بين الأجيال الحاملة للمثل ومن جاء بعدها مما خلق فجوة ثقافية.
-4 الابتعاد عن اللهجات والميل إلى اللغة البيضاء في المجتمعات الحديثة لتيسير التواصل بين الناس.
-5 ارتباط بعض الأمثال بخلفيات تاريخية بعيدة عن قناعات بعض المتلقين في المجتمعات الحديثة والمتحضرة.
-6 صعوبة لغة بعض الأمثال وحاجة المتلقي إلى التحقق من دلالتها لتحديد مدى مناسبتها.
-7 تراجع الاعتزاز بالهويات القومية بسبب شيوع الثقافة الغربية ومزاحمتها للثقافة المحلية.
-8 ضعف اهتمام الأجيال الحالية بالتراث عامة والشعبي خاصة.
-9 انشغال الأجيال بالتقنية ومعطياتها من ألعاب وبرامج وغيرها.
وقد تسببت تلك العوامل وغيرها في تقليص تداولية الأمثال مقابل العبارات المقتبسة من الفلاسفة والمفكرين، فعلى الرغم من صمود هذا الإرث الثقافي لأزمنة طويلة إلا أنه بات يشهد أزمة حضور في المجتمعات المعاصرة، شأنه شأن معظم الموروثات الشعبية، في ظل الانفتاح الثقافي على العالم والتحولات الفكرية المصاحبة لهذا الانفتاح.
وقد أسهم ازدهار التقنيات الصامتة والتواصل الاجتماعي في ضعف الاحتكاك بين الأجيال، وتغير العادات الاجتماعية الموروثة، فافتقد المجتمع الجلسات العائلية الدورية مع كبار السن، حيث كانت تتردد الأمثال الشعبية وتروى قصصها على الأبناء والأحفاد، فتنقل إليهم ما تحمله من تجارب وخبرات الأجداد، فالمثل -حتى يبقى ويؤثر- بحاجة إلى بيئة راعية، تكثر فيها اللقاءات والأحاديث، وهذا ما حدّت منه مشاغل العصر الحاضر.
ومن آثار التحولات الاجتماعية -أيضاً- ما شهدته المجتمعات في المرحلة الحالية من تغيرات في التفاعل والتعامل مع النصوص، فغدا بعضها في متن الثقافة والبعض الآخر على هامشها، وتلك دورة طبيعية للفنون والآداب، كدورة حياة البشر، لكن الأمر يتطلب المراجعة الدورية للإرث الثقافي والقومي القابل للذوبان بسبب التهميش. فالمجتمع اليوم يتناقل اقتباسات من الفلاسفة والمفكرين ورجال السياسة، من عرب وأجانب، متجاهلاً الأمثال القديمة التي قد تؤدي ما يريد تأديته من المقاصد، وليس في ذلك ضير إلا أن يكون ناتجاً عن أزمة ثقة واعتزاز بتلك الأمثال والموروثات. ولاشك أن وزارات الثقافة وهيئات التراث والفنون وكليات الآداب مطالبة بواجب كبير تجاه تلك الأمثال والمرويات الشفهية، بتخصيص البرامج لها، وحشد الجهود على تلقيها وتداولها وحفظها، وتخصيص الجوائز التشجيعية لرواتها، وإتاحة دراستها في الأطاريح الجامعية. كما يمكن إدراج الأمثال في المناهج الدراسية لتوعية الجيل الجديد بها وتعزيز أهميتها وتفعيل دورها الفكري والتربوي. ويمكن لأجهزة الإعلام العربي ووسائطه الرقمية أن تسهم -أيضاً- في حفظ الأمثال وتداولها، مع الحرص على تكييف تلك الأمثال أو بعضها مع التطورات الجديدة للخطابات ووسائل التواصل الاجتماعي التي يتم تداولها فيها.
وحين يتحقق هذا كله، أو بعضه، ستعود الأمثال إلى متن الحديث وإلى واقع الحدث اليومي، وستكون الاقتباسات رافداً مكملاً لا عنصراً رئيساً، وهذا من شأنه الحفاظ على تراث الأمة ولغتها وهويتها القومية.