مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

معركة خاسرة

معركتي مع الحياة خاسرة على الدوام، ولا أتذكر أني كسبت أي جولة ضدها، فقد كُتبتْ عليّ الهزيمة منذ الصغر، يتوالى تسجيل الأهداف في مرماي دون أنْ أستطيع صدها، على الرغم من محاولاتي المستميتة واستبسالي الخارق، وفي معظم الأحيان أقف عاجزاً لا أستطيع فعل شيء، فأنا مهزوم، مهزوم، مهزوم من المهد إلى اللحد!
هل أعددُ على حضراتكم وقائع الخيبة والفشل والانكسار والإذلال كي تصدقوني؟ إنْ فعلتُ، فلن يتسع كتاب كامل لذلك، ولذا، سأذكرُ لكم أمثلة فقط من الأهداف القاتلة التي سحقتني، ولم أملك إزاءها حيلة أو سبيلاً.
ولدتني أمي، ثم ماتتْ بحُمّى النّفاس. بربكم ماذا أستطيع أنْ أفعل؟! بل مَنْ يستطيعُ أنْ يفعل؟! إنّه صاروخ حارق خارق لخط الهجوم والدفاع، بل ولطاقم الحكام أيضاً، والجهاز الفني، والجمهور. أرأيتم، أصبحتُ يتيمَ الأمّ، فور خروجي إلى هذه الحياة، بلا حضن دافئ أو ثدي دافق، أو أخ أو أخت، فقد كنتُ بِكر أبويّ، ومن يومها، وهي تركُلني ذات اليمين وذات الشمال.
قبل مضي شهرين على وفاة أمي، تزوج أبي، بحجة رعايتي والتفرغ لعمله، فعانيتُ كلَّ أنواع المرار من زوجته، التي كانتْ تعاملني كحشرة مؤذية لا لزوم لها في البيت، وأمام أبي تتصنعُ الحبّ والحنان. كان أبي يحبني، ويظن أنّ زوجته صادقة كما تفعل أمامه، لكنّه كان يجهل كيد النساء وخبثهن، فقد كانت أمي ملاكاً، وحسب أنّ كلّ النساء مثلها. وقبل أنْ أُكمل سنتي الرابعة، توفي أبي بحادث سير، فأذاقتني زوجته الويل، ورمتني عند الجيران، وعادتْ إلى أهلها مع طفليها، وسرعان ما تزوجتْ بعد انتهاء عدتها.
لم يكن لي أقارب في المدينة، فأودعني الجيران دار أيتام، وفيها، عانيتُ وتعذبتُ، وتعرضتُ لأبشع أنواع المعاملة والتحرش والاستغلال والتنمر و... ووقعتُ على رأسي ذات يوم، واصطدم بحافة حديدية صلبة، وبعد إهمال وتلكؤ، نُقلتُ إلى المستشفى، وبقيتُ نزيله أكثر من شهرين، ثم عدتُ إلى دار الأيتام طريحَ الفراش لعدّة أشهر، لم أسلم خلالها من الإيذاء والضرب والاستغلال بكل أنواعه.
لن أُطيلَ عليكم، عندما بلغتُ سنّ البلوغ القانونية، كان يجب أنْ أخرجَ للحياة. منحوني مبلغاً بسيطاً من المال -حسب التعليمات- بعد أنْ اختلس المشرفُ نصفه، وزودني بكتاب إلى صاحب منجرة لأعمل عنده، كوني تعلمتُ أساسيات النّجارة في دار الأيتام. رحب بي صاحبُ المنجرة، وهو يعرف تاريخي وظروفي، وعرضَ عليَّ أنْ أُقيم في غرفة صغيرة فوق المنجرة، وأنْ أُشاركه الطعام الذي يأكله، وسيحتفظ بأجرتي أمانة عنده إلى أنْ أطلبها، فشكرتُ له عرضه، ووافقتُ، وأنا أستبشرُ خيراً بهذا الرجل النبيل، فقد ضحكت لي الحياة أخيراً، وعقدت معي صلحاً أرجو أن يدوم.
بذلتُ كلّ جهدي في العمل، وتعلمتُ فنَّ النّجارة على أصوله، وأصبحتُ محترفاً لا تقل مهارتي عن المعلم صاحب المنجرة، وكنتُ كلّ ليلة، قبل أنْ يسرقني النوم، تراودني أحلام اليقظة، والمستقبل المشرق السعيد. وبعد خمس سنوات من الجهد والكد والإخلاص في العمل، قررتُ أنْ أستقل بعمل لي، فأجرتي لم أمسسها، فقد تكفّل المعلم بعلاجي إنْ مرضتُ، وملابسي في المناسبات، ومصروفَ جيب إنْ أحببتُ الخروج هنا وهناك. صارحتُ المعلم برغبتي، فابتسم، وأرجأني ثلاثة أيام، ريثما يجهز الحسابات، بعد أنْ أثنى على رغبتي بالاستقلال وشق طريقي في الحياة.
تصارخ معلمي مع زبون اصطحبَ إخوته، بعد أنْ اتهموه بالغش في نوع الخشب المتفق عليه، وطالبوه بالتعويض، فرفض، وطردهم من المنجرة، فهددوه أنْ يأخذوا حقهم منه وزيادة. ولما هدأ معلمي، ناداني وفي يده دفتر أسود، ثم سرد لي حسابي بالتفصيل، فترة تدريب دون أجر، أجرة الغرفة، ثمن الطعام والملابس والعلاج، مصروف الجيب، خصم أجرة الأيام المرضية، خصم ثمن بعض القطع التي لم تكن جيدة ومُرضية أو أتلفتها دون قصد، و... كان صافي الحساب مبلغاً تافهاً لا يكفيني طعاماً لشهر واحد.
صدمني ما سمعتُ، وشلّني عن الحركة والكلام، ولم أستطع أنْ أنطق بكلمة. شعرتُ بالعجز والفراغ والضياع. انسحبتُ إلى غرفتي وأنا أجرُّ قدميَّ جراً، وارتميتُ على فراشي المهترئ، وأنا أفكر بمصيري المظلم، وحياتي التعسة التي لا بصيصَ أملٍ فيها، وأنا حائر، هل أتركُ المنجرة، أم أبقى فيها، وأعيشُ على الكفاف تابعاً بل عبداً للمعلم إلى الأبد؟!
بعد تفكير طويل، قررتُ أنْ أبقى في المنجرة، إلى أنْ أجد عملاً في منجرة أخرى، وسأخرجُ بين الحين والآخر للبحث دون علم المعلم. ولكن سأبحثُ في أحياء أخرى، فكل أصحاب المناجر في هذا الحي يعرفون معلمي، وإذا أخبروه، لا أضمن أنْ لا يطردني على الفور.
استيقظتُ في الليلة نفسها، بعد منتصف الليل، على ألسنة النار تلتهم المنجرة، وأخذتْ تحاصرني، صرختُ وصرختُ، ارتعبتُ، حاولتُ ولم أستطع الخروج، ثم سقطتُ مَغشياً عليَّ بفعل الدخان الخانق المشبع بروائح المواد الكيماوية من دهان وغراء وغيرها، ولم أعد إلى وعيي إلا بعد ساعات طويلة في المستشفى، في حالة خطرة، والحروق قد التهمتْ مساحة واسعة من جسمي، والأمل بالنّجاة ضعيف.
وحتى تكتمل اللعبة، وسخرية الحياة مني، وجدتُ يدي اليسرى مُقيدةً إلى السرير، وحارساً على باب غرفتي، فكما أخبرني الممرض، أنني مُشتبه به في حرق المنجرة. ولما تساءلتُ كيف أكونُ متهماً وفي ذات الوقت ضحيّة الحريق؟ ابتسم الممرض، وأصبتُ بالذُهول عندما قال: سمعتُ أنها محاولة انتقام وانتحار.
أعرفُ أنّكم تدعون لي بالبراءة من التهمة الظالمة، والسلامة والشفاء العاجل، ولكن، صدقوني، لقد أثخنتني الحياة بجراحها وهزائمها المنكرة، وأهدافها القاتلة، ولا رغبة لي بمواصلة العيش لأكون مجرد لوحة أهداف يتناوشني الجميع بسهامهم، أو مرمى دون عوارض مُشْرَعاً ومتاحاً ومشاعاً للجميع.

ذو صلة