الفن حصيلة نشاط فكري وجداني أدائي، يشتمل على عناصر حسية وأخرى تخيلية إبداعية ودلالات رمزية، ويُعد الفن التشكيلي من أقدم النشاطات الإنسانية التي أدت إلى ظهور أنواع الفنون الأخرى عبر التاريخ. وهو في إطاره التقليدي يهدف إلى اجتذاب عين المشاهد وإثارة فضوله نحو المعرفة، من خلال عناصر تتمثل في: الخط واللون والمساحة والشكل والفراغ والكتلة والملمس، ليُجابه المتلقي بعقله ووجدانه تراكيب تلك العناصر ويحللها ويتذوقها، في محاولة لاستقراء وفهم معاني تلك النُسق الظاهرة والاستمتاع بجمالياتها، نظراً لاعتماد الأعمال الفنية على عامل تحفيز انتباه المتلقي ومحاولة إطالة زمن تأملاته بقوى الإبهار البصري الشكلانية واللونية والمفاهيمية. والفنون التشكيلية قديماً وحديثاً لها دور فاعل في سياق الإنتاجية الاستهلاكية والاستثمارية، وبناء العلاقات الإنسانية ومجالات الاكتشاف العلمي، فقد شكَّلت مُنطلقاً للتعبير الجمالي والوجداني والمعرفي وإثراء الموجودات وظيفياً وشكلياً، ووسيلة لتفسير الظواهر وخدمة العلوم المختلفة، كما مثَّلت مرتكزاً لترجمة الرؤى وتبسيط المفاهيم والمعارف وترسيخ فهمها، ووسيلة لتناقل الخبرات الحياتية بين الحضارات والثقافات، دون أن تُشكل لغة التواصل المنطوقة عائقاً تتعثر به عمليات الاتصال بين شتى العلوم وكافة الأجناس والأعراق.
ولمنتجات الفنون التشكيلية الجمالية والنفعية حضورٌ ملحوظ وفاعل في جوانب الحياة ومجالاتها المتنوعة، وعلى الرغم من ذلك ورغم عراقة وجودها في تاريخ الحضارات الإنسانية وعلى رأسها الحضارة الإسلامية، إلا أننا قد نلحظ قصوراً ينتاب النظرة المجتمعية لها وفتوراً يُخيم على واقع العناية النوعية بها في المملكة، وتقصيراً من المتخصصين في تأكيد أهميتها وقيمتها المتنامية في الصناعات والاستثمارات الاقتصادية، فقد غبنا وغيبنا جدية إعمال التخطيط لمسارها أو إيجاد خطوات إجرائية تؤدي إلى توظيف مجالات الفنون التشكيلية بما يغذي احتياجات العصر الراهن ومتطلباته، هذا العصر الذي يعج بمقدرات الثورة المعلوماتية وتقنيات الوسائط المتعددة، ويزخر بإبداعات الفنون التشكيلية الداعمة للتقدم الاقتصادي والتكنولوجي. مع أننا نلاحظ أن كثيراً من المجتمعات العالمية المتقدمة تعاطت مع مفهوم «الفن للحياة» بكل جدية وجدارة، بما واكب ويواكب تلبية احتياجات حياتهم اليومية وخدمة مستقبلهم الاقتصادي، فباتوا يركزون على توظيف وإظهار القيم الفنية منتجاتهم وصناعاتهم، ويستمتعون بأبعادها الجمالية من خلال تصاميمها الشكلية وألوانها التي تجتذب جميع الأذواق. وذلك لا يعني التقليل من حجم وجود النُّخب المتذوقة للفن لذاته، والذين مازالوا يستمتعون بجماليات ومضامين الفنون التشكيلية، ويؤكدون قيمتها لذاتها -المنزهة عن الغرض- من خلال اللوحة والأعمال التشكيلية المعاصرة في المعارض والمحافل الفنية.
إن للفتور الذي يجتاح وعينا موصداً نوافذ تفكيرنا عن الدور الإنمائي التقدمي الذي تتصدر له الفنون التشكيلية، مع غياب التقدير الحقيقي لفاعليتها في إثراء المعطيات الحضارية (الصناعية والتقنية التكنولوجية ومجالات الاستثمار المعاصر) تبعات تجعلنا نواصل الانتظار على أعتاب المستهلكين، بعيداً عن أبواب الإنتاجية التي تُقارع وثبات الدول المتقدمة في صناعاتها وحضورها الاستثماري، فبعض فئات مجتمعنا لا تزال تنظر للفنون التشكيلية على أنها مصدر للمتعة الفنية والترف التكميلي فقط، الذي يُزين الحياة ولا يؤثر على جوهر متطلباتها الرئيسة الآنية والمستقبلية. ولعل انبعاث تلك النظرة القاصرة يأتي بسبب ضعف الالتفات إلى الأدوار الحيوية المؤثرة للفنون التشكيلية (الثقافية، العلمية، الاجتماعية، الاقتصادية، التربوية، المعرفية، التوعوية، النفسية، وحتى الدينية والسياسية) وتجاهل أصيل وجودها التاريخي المتعاظم في الحضارات الإنسانية ونهضتها، وعدم النظر لحقيقة وجودها الفارق في عصر تكنولوجيا الصناعة والتقنيات الرقمية بعوالمها الافتراضية، التي تعتمد بشكل رئيس على تكوينات وتأثيرات الصور المرئية الثابتة والمتحركة، بشتى تراكيبها الرمزية وأبعادها التعبيرية والوظيفية.
ومن المسلمات أن الثروة البشرية بعقولها المبدعة تُعد المحرك الأساس لاستثمار كافة الثروات الطبيعية، ومرتكز الاستفادة المتجددة من الموارد المتوفرة وإعادة إنتاجها بصياغات جديدة، وبدونها تصبح الموجودات والمقدرات محدودة الأثر جامدة القيمة دون حراك، فجميع الموارد لم تتحول إلى طاقة هائلة مُتعاظمة النفع ملموسة التأثير في حياة الإنسان المعاصر، إلا عندما وجدت عقولاً مُبدعة متفننة بابتكاراتها الخارجة عن المألوف. والفنون التشكيلية تُمثل مخزوناً ثرياً يعتمد على الطاقة الإبداعية للعقل البشري، الذي يجب اكتشاف إلهاماته والعناية بقدراته.
وفي عصرنا الراهن عصر التقنيات الرقمية والعوالم الافتراضية تتعاظم أهمية الفنون التشكيلية، لارتباط مخرجاتها الفنية وتطبيقاتها التشكيلية الرمزية والتعبيرية، بمعظم شؤون الحياة المعاصرة المتصلة بالمعرفة والمعتقدات والتفاعلات البينية، فقد أصبح الفن التشكيلي المعاصر ثقافة يفترض العناية به وتقديمه لجميع فئات المجتمع وأطيافه. ولعل نقطة الانطلاق تأتي بتبني رعاية مُمنهجة مُستدامة للمواهب الإبداعية في الفنون التشكيلية، التي يمتلكها نُخبةٌ من أبناء المملكة العربية السعودية، والعمل على تفعيل شراكاتٍ منظمة بين القطاعات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص، لتوظيف طاقات واستعدادات الموهوبين فنياً والاستفادة من ملكاتهم الفكرية (التكوينية والتعبيرية) في إطار من القيم الثقافية والانتماء المجتمعي والاستثمار الوطني. وهذا يتطلب العمل على النهوض بمكانة الفن التشكيلي لمواجهة احتياجات الحياة وزيادة النماء الاقتصادي، وذلك بالاستفادة من القدرات الفنية الشابة وتوظيف قدراتهم الفكرية ومهاراتهم التشكيلية الأدائية، من خلال تفعيل مبادرة جادة وشراكة مجتمعية فاعلة، يُقدم من خلالها رعاية تكاملية مُستدامة تُنمي وتتبنى مواهبهم الإبداعية، ويُعمل من خلالها على استثمار فكرهم الإبداعي وأدائهم الفني بما يفي بمتطلبات سوق العمل بالمملكة، ويُعزز قطاع الاستثمار التجاري والصناعي، ويُثري المخترعات العلمية والتقنيات الرقمية المعاصرة، فغياب الرعاية وعدم تهيئة القنوات المناسبة لاستقطاب ذوي المواهب الإبداعية في الفنون التشكيلية، ربما أدى إلى ضمور مواهبهم الفنية وطمس معالمها تدريجياً، أو قد يؤدي إلى جنوح توجهاتهم وتخبط سلوكهم في نطاقاتٍ فنية وحياتية غير مرغوبة، وربما سلكوا مساراً له سلبياته المجتمعية وأضراره الشخصية والأُسرية التراكمية، فيجتمع الهدر مع الضرر بسبب غياب إدراكنا لأهمية استثمار تلك القدرات الوطنية.
ويجدر التنويه هنا إلى أن التقدم التكنولوجي الرقمي بعوالمه الافتراضية له تأثيرات واضحة المعالم ملموسة النتائج، في سياق توسع مدارك الإنسان وانفتاح آفاقه وتنوع انطلاقات فكره، فالاكتشافات العلمية والتطور التقني لهما انعكاساتٌ على كافة المتغيرات المحلية والعالمية (الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والتربوية، والاجتماعية، وحتى الدينية)، حيث وُظِفت التقنيات الحديثة ووسائط الاتصال المتعددة في معظم مجالات الحياة ومنها مجال الفنون التشكيلية، فاستفاد الفنانون التشكيليون من مُعطيات العلم ومُقدرات التكنولوجيا، واستثمروها في إبداعاتهم الفنية ونتاجات مواهبهم التشكيلية المعاصرة، كما أضافوا إليها أبعاداً وتفاصيل جديدة من وحي ابتكاراتهم التخيلية المصورة، ليُجسدوا تعاضد العلم والفن في سياق مفهوم (فن الفكرة) وأثروا بذلك حيز العوالم الافتراضية التي تُشكل مصدراً يستلهم منه العلماء والمخترعون أفكاراً تطويرية مُتجددة، تُثري ابتكاراتهم التقنية وتُحفز تجاربهم العلمية.
بالإضافة إلى استفادة الفنون التشكيلية من تقنيات الحاسب الآلي وتطبيقاته الرقمية، وتأكيد حضورها ودورها المتميز في مجال التصميم الجرافيكي Graphic Design المستثمر في ميدان الوسائط الرقمية، الذي بات يُشكل مُنطلقاً رئيساً للاستثمارات التجارية ومرتكزاً اقتصادياً معاصراً لا غنى عنه، حيث يجمع هذا الفن بين الرموز التشكيلية والصور الفنية والحروف اللغوية في تكوينات إبداعية، تميل نحو الإيجاز الدال المعبر الذي يُجسد التصاميم، ذات الأثر الكبير في تسويق المنتجات والترويج للأفكار عن طريق الاتصال التفاعلي المباشر. والتصميم قد يكون في أصل تكوين المنتجات أو على عبواتها وأغلفتها، بما يُمثل شعاراً أو علامة تجارية تُشكل علامةً وفارقاً تسويقياً. كما أن الصناعات المستقبلية المعتمدة على تطبيقات تقنية النانو، تُمثل أحد أهم وأبرز المصادر الاقتصادية المعاصرة التي تشهد سباقاً تنافسياً عالمياً، وتمر بتطورات علمية متلاحقة يُتوقع لها أن تُغير وجه العالم في مجالات الحياة كلها، والمنتجات العلمية التقنية والصناعية الأساسية والاستهلاكية باستخدام (تقنية النانو)، تحتاج لإبداعات مصممين موهوبين في مجال الفنون التشكيلية المعاصرة، لإثراء تكويناتها الشكلية وتفاصيلها الخارجية، وإضفاء أبعادٍ جمالية عليها بما يُعزز تسويقها ورواجها التجاري، فالفنون التشكيلية المعاصرة القائمة على مفاهيمية الفكرة وإنتاج التصاميم، باتت تُشكل عصباً حيوياً في عصر علوم التقنية الرقمية، وشرياناً نابضاً في كيان عوالم الاستثمار التجاري الصناعي، من خلال استخدام أجهزة وشبكات الاتصال الإلكتروني وقنوات البث والتواصل الفضائي، التي تعتمد بشكل رئيس على تكوينات الصور المرئية بمدلولاتها الظاهرة والضمنية، وتستند على ثقافة الإدراك البصري، القائمة على صياغات الفنون التشكيلية وتطبيقاتها الرقمية الاحترافية.
ولعل من أبرز الأهداف التي تُجسد أهمية الاستثمار في الفنون التشكيلية ما يلي:
- توجيه طاقات الفنون التشكيلية لخدمة الاقتصاد الوطني، وتعزيز القيم والثقافة المجتمعية.
- دعم المجالات العلمية والمخترعات الوطنية بالتصاميم التشكيلية الإبداعية.
- الإسهام في ميدان التقدم التكنولوجي باستثمار الفن التشكيلي في تطبيقات الواقع الافتراضي.
- دعم الصناعة وخطط التنمية الوطنية بالمواهب الفنية التشكيلية في مجالات التصميم.
- تحقيق الاكتفاء الوطني بإيجاد مصممين بارعين في مجال الدعاية والإعلام.
- أن نكون مؤثرين في الاقتصاد العالمي من خلال إبداع الجماليات التي تخدم تسويق المنتجات الصناعية.