يمثل محمد ناجي: الشاعر المصور، المفكر، صاحب الأداء الحر، الواعي بمختلف التيارات الفنية، الحريص على متابعتها وحشدها حتى لا يعزب عنه شيء، والحريص على أن يقرر في لوحاته كل شيء، وصّاف، مولع بالأسفار. تتطلب أعماله السياحة فيها على طريقته، وإن كانت لا تبدو كذلك للوهلة الأولى، لسيطرته على تفاصيلها، وهيمنته على هندسة بنائها. التأثيرية وما بعدها، وما جاء قبلها، والفنون في الشرق والغرب -الشعبي منها وغير الشعبي- ورسوم الأطفال؛ هذا كله نسج منه الفنان أسلوبه المتميز في التصوير.
هذا الفنان لم يقنع بشيء، كان من دأبه أن
يعود ويكرر العودة لذات الفكرة على مدى فترات متباعدة من الزمان، كالأم تأبى أن تترك أحد أبنائها فترة طويلة دون أن تزوده من زادها وتكسبه من خيرة نمائها. وهو إلى ذلك فنان قادر على صيد اللمحة السريعة بالقلم الملون.
كما أنه كان مشغوفاً بالمساحات الواسعة من الجدران ينسق أجزاءها، وكأنها أحواض الزهور يتخير لكل منها ما يناسب الروضة في مجموعها، وكأنه المؤرخ المسجل يحشد ما جمع وحقق.
التعبير عن الروح الناهضة للبلاد
من الإسكندرية وقبرص إلى القرنة والحبشة، إلى باريس، إلى كل آفاق الفكر؛ تنقل هذا القانوني بحكم النشأة الدبلوماسية وبحكم الوظيفة، الفنان بحكم الحياة، المتوحد بطبيعته، المؤمل أن يعيد من جديد للفن في هذا المكان سيرة مجيدة.
فوق المنصة في مجلس الشيوخ، وعلى جدران أربعة في مستشفى المواساة، وفى قاعة البلدية بالإسكندرية، وعلى جدران مرسمه في سفح الأهرام، وفيما خلف من دراسات عديدة؛ عبر ذلك الإنسان الديناميكي الوجداني عن الروح الناهضة للبلاد.
ولقد مر في نشأته بعديد من المدارس والاتجاهات، ولكن بلورة أعماله في بلاد الحبشة كانت إيذاناً بميلاد شخصية الفنان المصور من رواد تلك الحركة.
من الصعب وضع تاريخ لأعمال ذلك الفنان الذي ترك جميع لوحاته مفتوحة لمعاودة العمل فيها من جديد، هي عقول نامية مؤمل لها النماء بغير حد.
هل هو الزجاج الملون؟ أم الكليم الشعبي؟ أم ألوان مقابر الأشراف بالقرنة؟ أم هي بهجة البحر الأبيض؟ أم الحبشة بقيظها وأفريقيا بألوانها؟ أم هو سوق القرية؟ أم وجدان ذلك الفنان الذي يحلم بأن يكون في كل الأمكنة، غير قانع بمكان. كان له مرسمه بالإسكندرية وبالريف وبقبرص وعلى النيل وفي سفح الأهرام، وكان كل مكان مرسماً لذلك الفنان.
إن مسيرة هؤلاء الرواد مثل ناجي تعطي دروساً بليغة، فهنالك فرق واضح بين الصور الشخصية في الفن الأصيل والصور الشخصية من الفن الدخيل؛ ففي الأولى يمنع الوعي الكوني الصلف الإنساني. والفئة الحديثة في هذه البلاد، من المتأثرين بفكرة العصر عن الإنسان الشريد بغير جذور تبدو غريبة عن المكان عندما تقارن بالرجل العادي.
وحلم هؤلاء الرواد أن تروي أعمالهم ظمأ جديداً إلى الحياة في ينبوعها الأصيل وفي الماوراء خلف كل شكل ظاهر. التواصل مع الحياة هو قلب التقاليد النابض، وهو دستور تلك الأعمال.
الحالة الراهنة للفن في العالم المعاصر تجعل منه نشاطاً على هامش الحياة. ولم يكن الأمر كذلك، ولا ينبغي أن يكون. فعندما تصبح الحياة دون أن يكون الفن أحد مقوماتها الأساسية التي لا يمكن فصله عنها؛ تصبح الحياة معدومة القيمة، والقيمة هي معنى الحياة.
وقد رسم ناجي لوحته الكبيرة (نهضة مصر) الموجودة في مبنى البرلمان المصري، كما صور شخصية الأسقف مكاريوس وأعد لوحة تحضيرية لإيزوريس. وأنجز خمس لوحات كبيرة لزخرفة جدران بهو مستشفى المواساة بالإسكندرية بعنوان (الطب عند العرب وعند الفراعنة).
متحف محمد ناجي
يضم مجموعة من أعمال الفنان الرائد، حيث اقتنت وزارة الثقافة مرسمه عام 1962م، تمهيداً لتحويله إلى متحف للفنان، وقامت شقيقته الفنانة (عفت ناجي) بإهداء الدولة أربعين لوحة زيتية من أعماله ومجموعة كبيرة من رسومه التحضيرية بالإضافة إلى متعلقاته الشخصية. وفي يوليو 1968 افتتح الدكتور (ثروت عكاشة) وزير الثقافة آنذاك متحف ناجي للجمهور بنفس عدد الأعمال الفنية التي تم إهداؤها، وفي عام 1987 اقتنت وزارة الثقافة مجموعة أخرى من اللوحات الزيتية لناجي عددها 28 لوحة، كما أهدت الفنانة عفت ناجي للمتحف مجموعة أخرى من رسومه، وفي عام 1991 تم افتتاح المتحف بعد تطويره وتحديثه.