مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

هل جربت الاقتراب من سفاح أكثر من اللازم؟

لم يكن غريباً على الروائي والسيناريست (دينيس ليهان) أن يتولى كتابة مسلسل (Black Bird)، فالمتأمل في أعماله الروائية (Mystic River) و(Gone Baby Gone) و(Shutter Island) والتي تحولت بدورها إلى أفلام ناجحة -وإن لم يكتب السيناريو لأي من تلك الأفلام- سيلاحظ الارتباط الوثيق بين رواياته وبين المسلسل، حيث يربطهم جميعاً الجريمة كنوع فني، والمأساة العائلية كثيمة درامية، فالفيلم الأول الذي أخرجه كلينت إيستوود، يحكي مأساة ثلاثة أصدقاء تعرضت ابنة أحدهم إلى القتل، وبينما يحقق في الجريمة الصديق الثاني، يكون الصديق الثالث هو المشتبه به الرئيس، أما الفيلم الثاني الذي أخرجه بين أفليك، فيحكي عن لغز اختفاء طفلة صغيرة، وسعي المحقق للبحث عمن خطفها، بينما تتكشف نمط حياة أم الطفلة المهملة ودورها فيما حدث، أما الفيلم الثالث الذي أخرجه مارتن سكورسيزي، فيحكي عن عملية تحقيق معقدة تتم في أحد المستشفيات العقلية، والذي ينتهي بمفاجأة كبيرة ناتجة أيضاً عن كارثة عائلية، ولذلك ليس من المستغرب أن وضع الكاتب المناسب أمام النص المناسب سيصنع عملاً بتلك الجودة.
المسلسل مقتبس عن كتاب (In with the Devil)، وهو كتاب ألفه جيمس كين بطل الحكاية بنفسه بمعاونة من المؤلف هيليل ليفين، وحكاية الكتاب والمسلسل تدور حول بطل رياضي سابق في كرة القدم الأمريكية (جيمس كين)، يتلقى حكماً بالسجن عشر سنوات في قضية حيازة مخدرات وسلاح دون ترخيص، وتعرض عليه صفقة مجنونة، حيث سيحصل على وقف لتنفيذ حكم العشر سنوات والإفراج عنه فوراً، في مقابل أن ينتقل إلى (سبرينجفيلد) وهو سجن خطير لعتاة المجرمين المختلين عقلياً، لينتزع اعترافاً من قاتل متسلسل هو (لاري هال) الذي يعتقد أنه قتل أكثر من 15 فتاة صغيرة وأخفى جثثهن، والمشكلة تكمن في أن لاري غير متزن عقلياً، ولكي يثق في جيمس ويعتبره صديقاً ويفصح له عن مكان دفن إحدى الجثث، فهو أمر غير مضمون على الإطلاق، وإذا لم يعد جيمس بالمعلومة -وتعثر الشرطة على الجثة- فإنه سيظل متواجداً في سبرينجفيلد حتى انتهاء مدته، وربما يتورط في مشاكل تمدد فترة سجنه، ولذلك فالأمر كله مغامرة إما أن يربح فيها حريته، أو أن يخسر كل شيء.
يسير السيناريو في خطين متوازيين ويلتقيان في النهاية، الخط الأول 1996 حيث يتم إلقاء القبض على جيمس كين والحكم عليه بالسجن، الخط الثاني 1993 حيث المحقق براين ميلر يحقق في قضية اختفاء مراهقة، وتقوده الشكوك إلى لاري هال الذي تنطبق عليه جميع المواصفات التي جمعها من خلال التحريات، وعند هذه النقطة نجد أن جميع رجال الشرطة الذين قابلهم براين ميلر أكدوا له أنه شخص غير متزن عقلياً، يسعى للاهتمام والشهرة، وأنه (معترف متسلسل)، وأنه يقوم بسلسلة من الاعترافات، بل ويصنع العديد من الأدلة الزائفة، رغم وجوده بشكل مؤكد في ولايات أخرى غير التي ارتكبت بها الجريمة، مما يدل على أنه لا يشكل أي خطر حقيقي، ولكن ينقلب سير التحقيقات رأساً على عقب، عندما يقدم لاري دليلاً جديداً مؤكداً لم يقدمه من قبل، على أنه مرتكب الجريمة بالفعل، وهنا تكمن خطوة لاري هال الحقيقية، فهو قاتل متسلسل قادر على الاعتراف بارتكاب جريمة قتل، دون أن يقتنع أحد بأنه فعلها فعلاً، ومن ثم فهو يخلي سبيله رغم الاعتراف! لذلك هو مجرم فريد من نوعه، ويجعلنا نعرف إلى أي درجة تكمن صعوبة المهمة التي تنظر جيمس كين لتحقيقها مع ذلك الرجل.
تزداد الصعوبات أمام جيمس كين بالتدريج وبطريقة تؤكد أن مهمته غير قابلة للتحقق، وهو ما يرفع بالتالي الإثارة إلى أقصى درجة ممكنة، تمثلت تلك الصعوبات في التالي، أولاً السجن نفسه شديد الخطورة وغير آمن على الإطلاق، ففي الأيام العادية لا يخلو الأمر من الشغب ومقتل بعض المساجين بل وأفراد الأمن أحياناً، وهو ما يعني أنه معرض للقتل في أي لحظة وبشكل عشوائي تماماً، ثانياً الاختصاصي النفسي المسؤول عن جيمس -والوحيد في السجن الذي يعلم طبيعة المهمة التي جاء من أجلها- لن يكون متوفر باستمرار لمساندته، بل ومن الأفضل ألا يتقابلا إلا نادراً حتى لا تثار حول جيمس الشكوك، ولذلك منحه المعالج بعض المهدئات ومضاداً للاكتئاب حتى يتحمل حياة السجن الصعبة، ثالثاً زيارة والد جيمس كين لابنه في السجن، زيارة استثنائية من والده ضابط الشرطة السابق، كانت كفيلة بتحويل حياة جيمس إلى جحيم، فقد أدرك حارس السجن (كارتر) أنه مجرد شخص متخف، أتى للسجن للإيقاع بأحد المساجين، ولذلك قام بتهديده بتسريب المعلومة إلى أفراد العصابات داخل السجن، إن لم يجلب له عشرة آلاف دولار التي يعرف جيداً أنه يستطيع تدبيرها من تجارته بالمخدرات، وتكون العقبة أكبر عندما يكتشف جيمس أن والده وعائلته لا يمتلكون أية أموال، ولم يجدوا أي أثر لتلك المخدرات، أي أن جيمس أصبح تحت رحمة حارس السجن الذي لا يرحم، رابعاً جلسة استئناف لاري أصبحت قريبة للغاية، وأصبح المطلوب من جيمس كين أن يُصاحب لاري بسرعة، ولكن ببطء حتى لا يثير شكوكه، وهي عملية معقدة يحتاج فيها أن يكسب ثقته بسرعة، وأن يعترف له بجرائمه وبمكان اختفاء الجثة، في مدة زمنية قصيرة للغاية، وهو الأمر الذي يشبه المشي على حبل مشدود، فلاري متحدث بطيء للغاية، وكثير الاستطراد في تفاصيل مملة تخص التنظيف وميكانيكا السيارات والحرب الأهلية الأمريكية، وجيمس عليه أن يستمع إلى كل ذلك ويشعره بالاهتمام والمودة، خامساً أصول جيمس الإيطالية وضعته وجهاً لوجه مع زعيم المجرمين ذوي الأصول الإيطالية، وأصبح عليه أن يكتسب احترام الأخير، وحمايته إن أمكن أمام كل تلك الصعوبات.
في النصف الثاني من زمن الأحداث، يضعنا السيناريو أمام مقارنة بين حياة الطفولة لكل من لاري هال وجيمس كين، وهي نقطة قوة السيناريست دينيس ليهان، جيمس كين الآن مسجون بتهمة حيازة وتجارة مخدرات وسلاح، ولكنه بطل رياضي سابق وابن ضابط شرطة، فما الذي حدث؟ بالعودة إلى طفولة جيمس، نجد لحظات من السعادة والمرح متجسدة في مشهد لعب كرة القدم الأمريكية بين الأب وابنه، يعلمه الأب كيف يحتفظ بالكرة وكيف يهاجم وكيف ينتصر، يبدو كل شيء مثالياً، ولم يكن من الغريب أن يكبر الابن ويصبح أحد نجوم اللعبة في الولايات المتحدة، ولكن هناك شيئاً ما يعكر صفو كل شيء، خلافات زوجية بين الأب والأم تفسد كل شيء، وتؤدي إلى أن يهمله الأب ويتزوج بأخرى، بينما يعيش جيمس مع زوج أم عنيف تجاهه وتجاه والدته، وبسبب ذلك يتعلم بسرعة فنون القتال ويتحصل فيها على أعلى الأحزمة، ليتمكن من رد العنف، وبسبب ذلك المنزل الذي أصبح ساماً بعد غياب الأب، تكون النتيجة الطبيعية، أن ينحرف البطل الرياضي إلى تجارة المخدرات، وإن كان هناك بذرة طيبة بداخله.
في المقابل لدينا طفولة من جحيم تنتظر لاري هال، الذي يعمل مع والده منذ نعومة أظفاره في حفر القبور مع والده، يوقظه الأب من نومه في الليل الحالك ليساعده على نبش القبور وسرقتها، يحفر لاري القبر وحده، ثم ينزل إلى التابوت ويفتحه، يبدأ في سرقة مقتنيات الميت، يحاول إخراج خاتم ذهبي من إصبعه بلا فائدة، فيلقي له والده آلة حادة ليقطع الأصبع من مكانه، الأهم أن يحصل على الخاتم، ذلك الاعتياد على التعامل مع الجثث وإهانتها وسرقتها، خلق حالة من التبلد واللامبالاة عند لاري تجاه الموت والحياة، أصبح فعل القتل والعبث بالجثة بل وربما الحصول منها على متعة جنسية مريضة بالنسبة له من الأمور العادية، وهكذا اكتسب لاري المهارات الأساسية التي ساعدته على ارتكاب الجرائم، فهو أيضاً حفار قبور متمرس، يستطيع أن يحفر قبر جثثه بطريقة لا تجعل لأحد القدرة على اكتشافها أو ملاحظتها، خصوصاً لو كانت في وسط الأراضي الزراعية، فهو يستطيع تسوية القبور ببقية الأرض بشكل مثالي، أيضاً عملية تنظيف الجثث وسيارة نقل الموتى جعلته قادراً على محو آثار الجريمة بشكل لا يمكن اكتشافه مطلقاً، تلك المقارنة التي عقدها ليهان ببراعة بين أب يوقظ ابنه للعب الكرة، وأب يوقظ ابنه لنبش قبر.
تأثير كل ما سبق على كلا الشخصيتين وعلى علاقتهم بالنساء، موجود بشكل ممتاز ومنذ الحلقة الأولى، فبينما يعتاد جيمس الرياضي الوسيم المشهور على التعامل بشكل راقٍ مع النساء، لا يجد لاري سوى الرفض أو التجاهل أو المعاملة الخشنة من الفتيات الصغيرات اللاتي يحاول أن يتحرش بهن، وهو ما يتسبب في النهاية إلى قتل عدد منهن في نهاية الأمر.
هل جرّبت الاقتراب من سفّاح أكثر من اللازم؟ حسناً هنا يبدأ الجحيم الحقيقي في مغامرة جيمس كين، ليس السجن ولا المساجين الخطيرون، إنما الاستماع إلى لاري هال دون أن يظهر على وجه جيمس أية ملامح انفعال أو اشمئزاز أو غضب، ولاري يحكي كيف كان يتلذذ بضرب وسحل وتعذيب تلك البنات الصغيرات، وكيف أجبرهن على ممارسة الجنس معه سواء كن أحياء أو أموات، وهنا تظهر أقوى مراحل الممثل (تارون إيجرتون) الذي أدى دور جيمس فوكس، فهو عليه أن يجالس الشيطان وهو يحكي له حكايات تفوق احتمال البشر، ورغم ذلك عليه أن يبرر له أفعاله ويوافق عليها ويبتسم، حتى يصل إلى مراده، ويخبره عن مكان دفن الجثة، وملامح وجه تارون إيجرتون التي كانت تتقلب بين الغضب والابتسامة، تظهر كم الألم الذي يمر به، خصوصاً عندما أخذ لاري يحكي عن الفتاة الصغيرة التي كان يغتصبها، وهي كل ما تفعله أن تصرخ وتبكي وتستنجد بأمها، طفلة تريد أمها، وهو يضع على وجهها قماشة مبللة بمواد كيمائية ليفقدها وعيها وتركيزها، ليفعل بها ما يحلو له، لذلك كان من الطبيعي عندما ذهب جيمس إلى زنزانته في آخر الليل، أن يظل يبكي، فما حدث قد انتهك إنسانيته تماماً من الداخل.
على الجانب الآخر أداء الممثل (باول والتر هوزر) في دور لاري هال مربك بكل معنى الكلمة، لأنه يجمع بين عدة متناقضات، هناك شخص يبدو أقرب إلى السذاجة والضعف، صوته خافت ويشبه صوت الأطفال، يخاف من أي بادرة عنف حتى لو كانت بعيدة عنه، ويلتصق في الجدار ليحمي نفسه من الخطر، متشكك وحذر وغير مبادر، يتأثر بكلمات من حوله بل وتغير طريقة تفكيره بسرعة، وعلى الجانب الآخر عندما يشعر بالأمان، يسمح للوحش المختبئ بداخله أن يظهر، وعندها تتغير ملامحه وتتلون لتكشف عن سفاح معدوم الإنسانية والضمير، يستطيع أن يفتك بأي كائن حي دون أن يطرف له جفن، عندها يظهر وجه لاري هال الحقيقي.

ذو صلة