تقف هذه المقالة الموجزة على شاعرين من كبار شعراء العربية، وتقرأ انعكاس حضورهما في عيون شاعرين من أشهر شعراء العصر الحديث. فعلى امتداد تاريخنا الشعري برز شعراء اتسموا بقدرتهم على الإلهام وإثارة الجدل والإبداع عبر القرون، فكان أبو تمام والمتنبي من العلامات البارزة في مسيرة الشعر العربي، وفي العصر الحيث لا يستطيع دارس تجاوز البردوني والفيتوري لأثرهما الجلّي في منجزنا الشعري الحديث.
البردوني وأبو تمام
استحضر عبدالله البردوني أبا تمام في قصيدته الشهيرة (ذكرى حبيب)، من خلال معارضته لبائية أبي تمام المعروفة:
السيف أصدقُ إنباء من الكتب
في حدّه الحدّ بين الجد واللعب
يقف على الواقع العربي المعاصر وأحوال اليمن ومآلات الأمة وأوجاعها:
حبيب وافيت من صنعاء يحملني
نسرٌ وخلفَ ضلوعي يلهثُ العرب
ماذا أحدّث عن صنعاء يا أبتي؟
مليحة عاشقاها السلّ والجرب
ماتت بصندوق وضّاح بلا سبب
ولم يمت في حشاها العشق والطرب
وفي مقارنة بينه وبين أبي تمام يقول البردوني:
حبيب تسأل عن حالي وكيف أنا؟
شبّابة في شفاه الريح تنتحب
كانت بلادك (رحلاً) ظهر (ناجية)
أما بلادي فلا ظهر ولا غبب
إلى أن يقول:
إذا امتطيت ركاباً للنوى فأنا
في داخلي أمتطي ناري وأغترب
قبري ومأساة ميلادي على كتفي
وحولي العدم المنفوخُ والصخب
أما صورة أبي تمام في عيني البردوني فهي صورة الشاب الذي نبغ قبل الأربعين، وطوّف في رحاب الشعر العربي حتى أخرج لنا كتابه (الحماسة) ليعكس فيه صورة الشاعر المتذوق والناقد الحصيف:
وأنت من شبت قبل الأربعين على
نار (الحماسة) تجلوها وتنتحب
ويأسف البردوني لأبي تمام الذي دفعه الفقر لركوب مركب المدح الصعب والوقوف على أبواب من لا يستحقون درره الشعرية:
شرّقت غرّبت من (والٍ) إلى (ملك)
يحثك الفقر أو يقتادك الطلب
طوّفت حتى وصلت (الموصل) انطفأت
فيك الأماني ولم يشبع لها أرب
وفي هذا إشارة إلى وفاته في الموصل.
ويشير البردوني في نهاية قصيدته إلى أن أبا تمام ترك الكثير من أحلامه غير محققة، مثلما هو حال البردوني:
(حبيب) مازال في عينيك أسئلة
تبدو وتنسى حكاياها فتنتقب
وما تزال بحلقي ألف مبكية
من رهبة البوح تستحيي وتضطرب
يكفيك أن عدانا أهدروا دمنا
ونحن من دمنا نحسو ونحتلب
واستطاع البردوني أن يجعل من أبي تمام وبائيته الشهيرة قناعاً يشكو فيه هذا الزمان وقسوته وهوان الأمة فيه، في مقارنته الخفية بين زمانين اختلف فيهما الحال إلى نقيضه.
المتنبي في عيون الفيتوري
أما شاعر العربية الأكبر المتنبي فقد كان موضوعاً لكثير من الشعراء الذين وجدوا في شخصيته كل ما يستفز الشعر ويذكي أواره. فما بين القلق والطموح والطمع والشاعرية العالية كانت شخصية المتنبي المثيرة للجدل ميداناً خصباً للشاعرية المعاصرة، ليكون قناعاً للتعبير عن قضايا العصر وأسئلة الحاضر. فشعراء من مثل (أدونيس) و(درويش) وغيرهما كتبوا قصائد للمتنبي وعن المتنبي.
وكان شاعر السودان الكبير محمد الفيتوري قد استفزته شخصية المتنبي وقدرته الشعرية الفائقة فكتب قصيدته (المتنبي)، ومطلعها:
يمرّ غيرك فيها وهو محتضر
لا برق يخطف عينيه ولا مطر
وأنت لا أسأل التاريخ عن هرم
في ظلّه قمم التاريخ تنتظر
ويبدو الفيتوري معجباً بالمتنبي حدّ الاستغراق التام في هذه الشخصية:
عن عاشق في الذرى لم تكتمل أبداً
إلا على صدره الآيات والسّور
عن الذي كان عصراً شامخاً ويداً
تشدُّ عصراً إليها وهو يحتضر
أما أثر المتنبي في خلود الكثيرين ممن مدحهم، فإن الفيتوري يرى أن خلودهم مرهون بشاعرية المتنبي، إذ إنهم كانوا أقزاماً فجعل المتنبي منهم قامات ورموزاً يحتفل بهم التاريخ:
وبعضهم أنت تدري أن شعرك لو
لم يلق ضوءاً على أيامهم غَبَروا
كانوا ملوكاً على أرض ممزقة
يجوع فوق ثراها النبت والبشر
كانو ملوكاً مماليكاً وأعظمهم
تحت السماوات من في ظلك استتروا
ويقف الفيتوري عند الدور الذي حاول المتنبي أن يلعبه من خلال شعره، إذ سعى إلى بعث الهمة والعزيمة في نفوس ممدوحيه، وبث قيم الفروسية والبطولة في وجدانهم:
ورحت تنفخ فيهم منك ترفعهم
فيسقط البعض أو تبني فينكسروا
أردت تخلق أبطالاً تعيدُ بهم
عصر النبوّة والرؤيا فما قدروا
ويشير إلى غضب المتنبي المتنامي ممن كان يؤمّل فيهم الخير، بعد أن طوّق أعناقهم بمدائحه الخالدة:
وسرت غضبان في التاريخ لا عنقٌ
إلا ومنك على طياته أثر
تصفو، وتجفو، وتستعلي، وتبتدر
وتستفزُّ وتستثني وتحتقر
هذا زمانك لا هذا زمانهم
فأنت معنى وجود ليس ينحصر
ثم ينتقل إلى وصف حال الأمة المعاصر من خلال المتنبي، مستلهماً بيته الشهير:
وسوى الروم خلف ظهرك روم
فعلى أي جانبيك تميل
وقد استطاع الفيتوري أن يجعل المتنبي قناعاً للشكوى من عصرنا الحاضر، مستفيداً مما تتيحه شخصيته من دلالات وشعره من إحالات رمزية عالية، ويختم الفيتوري بقوله:
فالمجد أعظم إيقاعاً وربّ دمٍ
يمشي حزيناً ويمشي إثره القدر