لم يكن أكثر المتفائلين فور الإعلان عن عودة النشاط السينمائي في السعودية في نهاية عام 2017 يتوقع أن يشاهد حضور حفل افتتاح مهرجان كان السينمائي الدولي 2023 فيلماً من بطولة جوني ديب بتمويل سعودي من خلال مؤسسة البحر الأحمر التي دعمت فيلم (جان دو باري) ليخرج للنور ويكون أحد أضخم الإنتاجات الفرنسية في 2023 بميزانية ناهزت 22 مليون يورو، وتنقذ المشروع السينمائي للنجم الأمريكي من التعثر.
بصمة السينما السعودية في المهرجانات السينمائية الكبرى لم تقتصر في 2023 على المهرجان الفرنسي ولكنها عبرت المحيط إلى مهرجان تورنتو الذي شهد للمرة الأولى أيضاً عرض 3 أفلام سينمائية سعودية في المهرجان لتكون الحاضر العربي الأكبر في واحد من أهم المهرجانات السينمائية الكبرى بأفلام (هجان) لأبو بكر شوقي، (ناقة) لمشعل الجاسر، و(مندوب الليل) لعلي الكلثمي.
خمس سنوات كانت كافية لوجود السينما السعودية والقفز لمراحل لم تستطع السينما في دول أخرى تخطيها بعقود، صحيح أن الدعم الكبير الذي حظيت به صناعة السينما بشكل خاص والترفيه في المملكة بشكل خاص أمر ساعد في هذه النقطة، لكن الدعم المالي وحده لم يكن يحقق هذا النجاح من دون وجود مواهب لديها القدرة على استغلال الفرصة، وعقول توظف الدعم للاستفادة منه.
سنوات تجاوز فيها النقاد فكرة غض البصر عن الأخطاء لكون الفيلم ينتمي لبلد لم يكن بها أي نشاط فني على مدار عقود، وعبر فيها الجمهور السعودي عن اهتماماته المختلفة في المشاهدة السينمائية بتجارب متنوعة لم تقتصر على السينما المصرية أو العربية فقط ولكن امتدت للأفلام العالمية التي أصبحت تضع السوق السعودية في خطتها للتوزيع السينمائي.
نجاح تجاوز فترة توقف إجباري استمرت نحو عام ونصف بسبب جائحة كورونا وما تبعها من العودة للعمل وفق إجراءات احترازية قيدت الكثير من المشاريع والتجارب وتسببت بتأخر خروجها للنور وعرقلت حتى مشاريع السينما العالمية وأوقفت شباك التذاكر عن العمل اضطرارياً مع عودة لشهور على استحياء وترقب.
استفادت صناعة السينما في السعودية من أمور عدة، بداية من اهتمام الشباب الذين يشكلون الشريحة السكانية الأكبر بالسينما واطلاعهم عليها، مع وجود تجارب عدة قدمت بالفعل عبر اليوتيوب وغيره من المنصات وصولاً للجيل السعودي الذي ولد وعاش في الخارج لسنوات طويلة أو سافر للدراسة وأتيحت له فرصة الاطلاع على صناعة السينما بشكل أكبر بجانب التطور التكنولوجي الهائل الذي ساعد في إتاحة دورات متخصصة لغالبية المهتمين بالسينما من دون أن يكونوا بحاجة لدراسة متعمقة تستمر لسنوات.
استفادة السينما السعودية امتدت لتشمل التوسع في الاستقدام للخبرات السينمائية بمختلف المجالات وليس النجوم فقط للحضور بالفعاليات الفنية، فصناع السينما خلف الكاميرا كان حضورهم وتواجدهم مؤثراً بشدة في نقل الخبرات وتشجيع الأجيال الجديدة على الانخراط بالعمل الفني والسينمائي بجانب بعثات الدراسة في الخارج التي ستجني المملكة ثمارها مستقبلاً بجيل أكثر نضوجاً وحصداً للجوائز والإيرادات في السينما العالمية.
ولا يمكن إغفال وجود شغف لدى شريحة ليست بالقليلة من صناع السينما للتعرف على المملكة التي لطالما قرأوا أو شاهدوا عنها أحاديث متضاربة وربما صورة ضبابية بفترات سابقة، وهو أمر جعل عروض الأفلام السعودية في المهرجانات السينمائية ترفع لافتة كامل العدد، بل واهتمام النقاد بالكتابة في الإصدارات السينمائية عن الأفلام السعودية.
صحيح أن بعض هذه الإنتاجات يشارك فيها كصناع من جنسيات متعددة بنسب متفاوتة بحسب طبيعة العمل لكن وجود الأجيال الجديدة التي تدرس التقنيات المختلفة وتحتك بصناع الأفلام ستكون قادرة بسنوات قليلة ليس فقط على التواجد كبديلة ولكن كمنافسة لتقديمها خارج حدود المملكة سواء عبر أفراد أو شركات تنخرط بشراكات مع نظيرتها الأجنبية.
بحلول نهاية 2023 يتوقع تجاوز عدد شاشات السينما في السعودية عتبة 700 شاشة، نمو متزايد بأرقام قياسية دفع شركة (Entertainment Solution Services) إلى توقع تحول المملكة لتكون ضمن أفضل 20 سوقاً للسينما العالمية بإيرادات تتجاوز مليار دولار بحلول 2030، وفق تقرير أصدرته مطلع العام الجاري.
لا يبدو الرقم الذي توقعه التقرير بعيداً بالنظر إلى إعلان الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع تحقيق إيرادات تتجاوز 535 مليون ريال في النصف الأول فقط من العام الجاري، إيرادات تصدرها الفيلم السعودي (سطار).
رغم محدودية إيرادات غالبية الأفلام السعودية التي طرحت بالصالات السعودية حتى الآن، لكن ما يمكن ملاحظته هو التباين في الإيرادات الكبير الأمر الذي يبشر بسوق سينمائية متنوعة بالأفلام ما بين الأفلام الفنية والأفلام التجارية التي يحقق بعضها إيرادات كبيرة ويتعثر البعض الآخر.
إنتاجات السينما السعودية التي لم تعد قاصرة على العرض بالصالات ولكن أيضاً عبر منصات مثل (نتفليكس) التي عرضت مؤخراً فيلم (ناقة) وتصدر المشاهدة لأيام في الشرق الأوسط وهو أمر ليس بجديد وسبق أن تكرر مع فيلم (الخلاط +)، وهي منصات لم تكن تقبل على تقديم تجارب بالسينما السعودية لو لم تضمن عائداً وقيمة فنية.
ما يميز عدداً ليس بالقليل من صناع السينما السعودية في الوقت الراهن حرصهم على تقديم قصصهم وحكايتهم بعيداً عن الموضوعات النمطية التي تتناول (الصحوة)، وكذلك تجنب (سعودة) الأفلام الأمريكية أو الأوروبية وهو أمر سيجعل لدى الجمهور فرصة جيدة لمشاهد قصصه على الشاشة واختيار الأفضل منها ومشاهدتها بالصالات.
المؤكد أن المسارات المتوازية التي انخرطت فيها صناعة السينما السعودية بداية من فتح الصالات السينمائية لاستقبال الأفلام من مختلف دول العالم مروراً بإطلاق مهرجان البحر الأحمر السينمائي وصندوق الدعم، وصولاً إلى الاستفادة من خبرات المواهب بمختلف المجالات في المشاريع السينمائية السعودية مع فتح المجال أمام صناع السينما العالمية لتصوير مشاريعهم داخل المملكة بتسهيلات وامتيازات استثنائية سواء في (العلا) أو (نيوم) وغيرها من مواقع التصوير الفريدة ستجعل اسم السعودية متردداً بشكل مستمر في السينما حول العالم.