في الصباح الباكر، وسط هالة كبيرة من الأفكار الغائمة والحالمة معاً، يجر الصبي رجليه بتثاقل قاصداً المدرسة، حاملاً حقيبته المدرسية المكدسة بأكوام من الدفاتر والكتب، يشعر بها ثقيلة تكاد تقسم ظهره كأطنان من الحجارة، ينظر إلى عمَّال النظافة الآسيويين بعين الحسد وهم ينظفون الأرض بمكانس ذات شعر أحمر، ويثرثرون بكلمات لا يفهمها، فهو يحب هذا الجزء من اليوم، إنه صباح شتوي رائق، والشمس تكسو الجدران بالنور، وتغمر الأشجار بضوئها البارد كعذارى يستحممن ويرقصن تحت وابل دافق من رذاذ المطر، يراقب القطط المتسكعة بحرية، وعصافير الدوري التي تحلِّق جماعات وهي تهوي إلى بركة ماء تركتها أمطار ليلة الأمس، يمر بجانبها فتطير مجفلة، وما أن يبتعد حتى تعود لتشرب وكأنها تقول له امضِ إلى مدرستك، فبعد قليل من الوقت سيعم الهدوء مجدداً في الأرجاء، إذ سيغدو الجميع إلى مدارسهم، والكبار إلى أعمالهم، إلا القليل من الناس غالبيتهم من النساء وكبار السن.
هكذا فكَّر برأسه الصغير ذي التسع سنوات، وهو في حجرة الدرس، فهو يظل طوال يومه الدراسي شارداً بعيداً، يتلصص بحسد من نافذة غرفة الصف إلى الناس المارين، أو يظل يراقب شجرة نبق هرمة، يزورها كل يوم زوجان من طيور البلبل، يراقبهما باهتمام، يغيب في تفاصيلهما، فيرى أحياناً الذكر وهو يُمَسِّد ريش الأنثى بمنقاره، يطيران معاً ثم ما يلبثان أن يعودا، لم يكن دأبهما إلا هذا والغناء على الغصن، بينما الطلبة الآخرون مشغولون بأشياء أخرى، كالدرس أو الأحاديث الجانبية التي يسرقها الأطفال أثناء انشغال معلمتهم بشيء آخر. يشعر بالسعادة إزاء ذلك الإيثار، إذ هو الوحيد من يراقب ذلك العالم في تلك الصباحات، تستيقظ في ذاكرته صور ساحرة لفراشات ملونة طليقة لا تعرف الأسر. وكم نبهته المعلمة مرات عديدة للالتفات، وكم وبخته، لكنه لم يكن يكترث لذلك، فكل أمنيته أن يخرج من المدرسة صباحاً، بينما الآخرون مشغولون في المدرسة، ويفعل ما يحلو له في الخارج مستأثراً بهذا الصباح الجميل لوحده.
كان الشتاء قارساً، فيما يندلق الطلاب جميعاً من باب المدرسة عائدين، تتلاحق أنفاسُهم السَّريعة كقطيع من الغزلان البرية الراكضة، هنالك حيث كتلة هوائية باردة قد لفحته، أحس بالتعب قليلاً، وأخذ به العطاس مأخذه، الذي استمر معه حتى المساء، سمع أمه تُحَدِّث أباه بقلق:
- إذا لم تتحسن حالته، فمن المستحسن أن يغيب غداً عن المدرسة.
أصابه فرح لسماع ذلك الحديث، وتمنى فعلاً أن تتحقق أمنيته ويغيب عن المدرسة، وفي الصباح لاحظ الوجل والخوف على وجه أمه وهي تضع يدها وتحركها على كامل جسده وهي تقول:
- إنك محموم يا ولدي.. فلتسترح اليوم.
وسقته الدواء على مضض منه. كان عليه أن يشرب، فإن ذلك سيمنحه أمنيته.
لكنَّه بقي مستلقياً في سريره، فالحرارة لم تفارق جسده، يحس بثقل في رأسه، ومطارق تدق عظام جمجمته، تكاد تسحقها سحقاً كلما حاول رفع هامته من فوق الوسادة، فلما بلغت الساعة العاشرة صباحاً، وقد تجمَّعت جارات أمه، أخذن يشربن الشاي ويثرثرن معاً.. عند ذلك بدأ البرنامج النسائي الصباحي على محطة التليفزيون، وكن ينتظرنه بفارغ الصبر، إنه برنامج يبدو أنه معد خصيصاً لربات البيوت اللاتي يجلسن في الصباح في بيوتهن، وصمتن بعد حديث طويل، فقد بدأ البث المباشر، كان من ضمن فقراته الأساسية أن تحدثت طبيبة عن كلام لم يفهمه، كانت تتكلم عن (الحيض) وكيف يتجنبن آلامه المبرحة، وما سر انقطاعه عنهن؟ ومتى؟
أخذ الصبي يتلصص عليهن من خلف الباب الموارب، ثم تلا ذلك فقرة استفسار المشاهدات، وتوالت الاتصالات، وكانت الضيفة تجيب عن كل ذلك بالتفصيل، وبعد انتهاء البث، يسمع أحاديثهن عن قلقهن من انقطاع ذلك الطمث، مما يؤذن بانقطاع دورهن، وكأنهن قد وصلن إلى آخر الحياة.
وعند الظهيرة سأل أمه عما سمعه، وهل يصاب به الصبيان أيضاً؟ فزعت الأم من سؤال ابنها وعنَّفته وأجابت باقتضاب:
- هذ أمر يخص الفتيات فقط، فلا تسأل عن أمر لا يخصك.
بقي الصبي يفكر طوال الليل في كلام تلك المرأة، تنساب حروفه الضائعةُ فوق بحيرةٍ من العذابِ والوَحدةِ، سائلاً نفسه لماذا لا تريد أمه أن تجيب عن أسئلته.
ولليوم التالي على التوالي تغيَّب الصبي عن الذهاب للمدرسة، فالحمى لم تفارق جسده، وبقي طوال الليل يشتعل ناراً، ولم تفد الضمادات الباردة إلا قليلاً.
بقي الولد نائماً في فراشه، ورغم تعبه فقد بقي ينتظر قدوم الجارات لعله يسمع المزيد ويعرف سر ما يتحدثن عنه. هذا اليوم كانت الأم حذرة جداً، لأنها قلقة من إغلاق الباب عليه تماماً لتبقى متصلة به وتسمعه جيداً عندما يناديها. ولذلك أبقت الباب موارباً، وهو ما مكَّن الصبي من استراق السمع، وجعله في وضع الاستعداد، حيث تَغْرَقُ سهامُ صمتِه في بحر لُجِّي من الحيرةِ، وما إن سمع الجارات يتواردن في المجيء، وصوت التطام الملعقة في جدران أكواب الشاي وهي تدور في استكانة لإذابة حبات السكر الهائمة، حتى بدت أذناه طويلتين كأذني أرنب، وقد أرهف سمعه أكثر مما سبق، فسمع أمه توشوش النساء بقولها:
- لقد سمع كل شيء.
عندها علت أصواتهن الدهشة والقلق، قالت إحداهن:
- ما العمل إذن؟، أنا أنتظر حلقة اليوم بفارغ الصبر، فالطبيبة ستتحدث عن الفتيات البالغات وكيفية التصرف معهن!
قالت الأم بصوت خفيض:
- اسكتن، فقد يسمعكن الولد.
وما إن حل وقت البرنامج حتى تم خفض صوت التلفاز كثيراً، حيث اقتربن منه حتى يسمعن بشكل جيد، وقد نجحن في إبعاد الولد وعزله عنهن.
في اليوم التالي تحسَّنت حالته الصحية، وهو ما شكَّل انفراجة لجاراته ومنهن أمه، وفي حجرة الصف بقي ذهنه مشغولاً بما دار بينهن، ينظر إلى ساعة الحائط في المدرسة، إنها العاشرة الآن، وبينما ينظر كان يقول في خلده: لا بد من أنهن يشاهدن البرنامج الآن بكل حرية.
فما كان منه إلا أن رفع يده طلباً السؤال، وسط اندهاش الجميع، فهو لم يكن يسأل يوماً عن أي شيء يخص الدرس. قالت له المعلمة، وقد انطلقت أسارير وجهها فرحاً بهذا التغيُّر الجديد المباغت.
الابن: ما الحيض يا معلمة؟
ساد صمت مطبق على غرفة الصف، وكأن هناك من ألقى بقنبلة نووية فوق رؤوس الحضور، كتم بعضهم ضحكته، أما المعلمة فقد اتسعت عيناها وعلت وجهها حمرة الخجل، وشخصت ببصرها إلى السقف كأنها تنتظر أن يُوحى إليها بشيء في تلك اللحظات، وبعد عدة ثوانٍ مرت عليها وكأنها دهرٌ بأكمله كسرت حاجز الصمت السميك وقالت له:
- لكي تأتي أنت إلى الحياة. ثم أكملت: ركِّز في دروسك.
لم يفهم الصبي إجابة معلمته، وراح يغمض عينيه، مستسلماً لنواقيس الشُّرود تعبث بذاكرته المثقوبة، حيث بدا الأمر في ذهنه أكثر تعقيداً من ذي قبل، بعدها أكملت المعلمة شرح الدرس هاربةً من سؤال الصبي ومن نظرات باقي الصبية، بينما أشاح الصبي بوجهه إلى النافذة، ليرى البلبلين وقد بنيا لهما عُشاً على غصن الشجرة، وقد رقدت الأنثى على بيضها البكر.