في حفلات الموسيقى الكلاسيكية، وسط آلات الأوركسترا؛ نرى العود أحياناً، ذلك العربي الذي سافر وارتحل إلى أوروبا منذ قديم الزمان، وقد تغير شكله وتبدلت ملامحه، واختلف صوته قليلاً، وتطورت أوزانه ومقاييسه بما يلائم خصائص الموسيقى الغربية. فتطول ذراعه تارة، وتارة أخرى تقصر، وتصير أعرض حتى تتسع للعدد الكبير من الأوتار، أما الجسم فيظل محتفظاً بشكل نصف الكمثرى أو دمعة العين، وفتحة الصوت التي تكون في الواجهة بطبيعة الحال، مع التخفف من النقوش والزخرفات المعتادة في العود العربي، التي تمنحه مظهراً أنيقاً غنياً بالتفاصيل المعقدة، لذلك قد يبدو العود الأوروبي بالنسبة للبعض، جافاً باهتاً إلى حد ما، وأقل أناقة وبهاء من العود العربي، هذا من ناحية المظهر فقط، لكن السامع يجد كذلك في صوت العود الأوروبي جمالاً بديعاً، يأسر الأذن ويجذب الروح، ويذهب بالمخيلة نحو تاريخ مجيد صنعته الحضارة العربية يوماً، وينظر بإعجاب إلى تلاقي الحضارات الإنسانية بشكل عام.
تعد آلة العود من أهم الآلات الموسيقية التي تميز الموسيقى العربية، إن لم تكن الآلة الأهم على الإطلاق، فهي آلة عربية الشكل والصوت والإحساس، تنطق أوتارها بالشجن الساكن في أعماق النفس العربية، ويعبر صوتها عن حرارة الوجدان وقوة العاطفة ودفء الشعور. والعود من أقدم الآلات الموسيقية الوترية التي صنعها الإنسان، لكنه ليس الآلة الأولى في تاريخ البشرية، فمنذ أن كان الإنسان القديم يبحث عن الموسيقى في هذا الكون، ربما من أجل الترف والتسرية عن النفس، وربما من أجل تلبية احتياج ما، كان يستشعره عندما اكتشف أن الحياة لا يمكن أن تقتصر على صيد الفرائس واقتناص الرزق، واغتنام المأكل والمشرب فحسب، وأنه لا بد للحياة من أن يتم تلوينها بألوان الجمال، وتغليفها بغلاف من الخيال لكي تحلو مرارتها ويهون عسيرها قليلاً. ومن هنا نشأت ضرورة الفنون، فأخذ يرسم ويحفر على جدران الكهوف في الجبال، واستمع إلى أصوات الطبيعة والطيور وأحب أن يقلدها ويحاكيها، فأخذ يصنع من أخشاب الأشجار وشعر الحيوانات وجلودها، آلات موسيقية بدائية، تصدر أصواتاً غير منضبطة، لتواصل البشرية عصراً تلو الآخر تطوير تلك الآلات وتنميقها، وضبط قواعدها الموسيقية. لذا يعود تاريخ الآلات الوترية، وبقية الآلات الموسيقية عموماً من آلات النفخ الهوائية والآلات الإيقاعية وغيرها؛ إلى أزمنة سحيقة للغاية، لا يمكن تحديدها على وجه الدقة. لكن التأريخ للآلات الموسيقية الوترية، يبدأ منذ الحضارات القديمة المعروفة، كالحضارة الفرعونية في مصر القديمة، والحضارة الآشورية والحضارة الأمازيغية على سبيل المثال، حيث ظهرت في تلك الحضارات مجموعة من الآلات الوترية كان يتم العزف عليها، يمكن اعتبارها أو يعتبرها البعض بالفعل إرهاصات مهدت لظهور العود، أو محاولات أولية ألهمت صانعي العود في العصور اللاحقة. أخذت الآلات الوترية تتغير بمرور الزمن وتتطور من حضارة إلى أخرى، إلى أن ظهر العود في بلاد العرب على هيئته القديمة ذات الأوتار الأربعة، إلى أن أمسك به زرياب وأضاف إليه الوتر الخامس، واستبدل مضرابه الخشبي بالريشة، وحمله إلى الأندلس، حيث أزهى عصور الحضارة العربية. استقر العود في نعيم الأندلس، ونعمت الأندلس بصوت العود وألحانه، ورافقت أنغامه أجمل الشعر والغناء. وإلى اليوم تبقى للعود مكانته الخاصة عند العرب، يجدون فيه ما لا يجدونه عند أي آلة موسيقية أخرى، وارتبط عندهم بأمهر العازفين والمطربين والملحنين الذين أمسكوا به يوماً، وصاغوا ألحانهم على أوتاره، وأمتعوا جمهورهم بتقاسيمه.
خلال الفترة من القرن الثامن حتى القرن الخامس عشر الميلادي، كانت الأندلس البقعة المضيئة في أوروبا، التي يلجأ إليها الباحثون عن المعرفة، من أجل تلقي العلم وتحصيل المنافع ومحاولة الالتحاق بركب الحضارة، وكانت كذلك مركزاً للإشعاع الحضاري، ينبعث من إسبانيا وجنوب فرنسا وشبه جزيرة أيبريا نحو سائر أرجاء أوروبا. قد يظن البعض أن أثر الحضارة العربية في أوروبا كان مقتصراً على العلوم والآداب، والطب والفكر وشروح الفلاسفة وما إلى هنالك، إلا أن الأثر الفني كان كبيراً هو الآخر، ولا تزال أدلته موجودة قائمة في تراث أوروبا وموسيقاها الكلاسيكية، يشير إلى ذلك التاريخ، وما حدث فيه من تبادل ثقافي، فكما أفادت أوروبا من آثار العرب في العلوم والآداب والفكر والفلسفة، استلهمت أيضاً من فنون العرب واستعارت العود، الذي ظل آلة رئيسة سائدة، يتم الاعتماد عليها في التعبير الموسيقي البحت والألحان المنفردة، ومرافقة الغناء والصوت البشري، وظل الأمر على هذا النحو حتى ظهور البيانو في القرن الثامن عشر، وصار الآلة الأوروبية الأثيرة المعبرة عن الوجدان الأوروبي، والناطقة بلغته الأصيلة، أما العود فقد توارى واختفى من المؤلفات الموسيقية الجديدة في ذلك الزمن، وتحول إلى رمز لأزمنة موسيقية قديمة مضت وانقضت، عرفتها الحضارة الأوروبية في مرحلة من مراحل تطورها الإنساني، وظل العود أثراً عربياً لعب دوره يوماً في تلك الحضارة الأوروبية، وبات حضوره مقتصراً على تقديم موسيقى العصور الماضية، لكنه في الوقت نفسه لم يتحول إلى آلة متحفية للمشاهدة فقط، أو قطعة جامدة صماء تخلو من الحياة، فالعود في أوروبا موجود حتى اليوم، يدرسه الدارسون في الأكاديميات والمعاهد الموسيقية، ويتخصص في العزف عليه العازفون والعازفات من الأجيال الشابة الجديدة، ومنهم من يبرع ويحقق شهرة كبيرة من خلال هذا المجال، يُسمع صوت العود الأوروبي إلى الآن، ولا يزال يعزف ألحاناً وضعها له في القرون الغابرة عظماء الموسيقى الكلاسيكية، ليكتشفه الجيل تلو الآخر من المتلقين، منبهرين بتلك الآلة الموسيقية العتيقة، التي تحمل تاريخاً طويلاً شكلاً وصوتاً.
كان عصر النهضة بداية الارتقاء الحضاري في أوروبا والانفتاح على الأفكار الجديدة، على مستوى العلوم والآداب والفنون، أتى ذلك العصر ليؤذن بطلوع الشمس على أوروبا، وانقشاع ظلام العصور الوسطى، بما شهدته من حروب وأوبئة ومجاعات وصراعات دينية، عرفت أوروبا خلال عصر النهضة الذي يعرف كذلك باسم عصر الإحياء وعصر الرينيسانس، ميلاداً جديداً على المستوى العلمي والفني والسياسي والفكري والاجتماعي، فهو عصر رفائيل ومايكل أنجلو وليوناردو دا فينشي، وغيرهم الكثير من أعلام ذلك العصر، الذي يعد من أهم العصور في تاريخ الإنسانية بشكل عام، لا في تاريخ أوروبا وحدها. في حياتها الجديدة إبّان عصر النهضة، استمدت أوروبا بعض جوانب هذه الحياة من روح الحضارة العربية، وكان العود من أهم الملامح الرئيسة التي تميز الموسيقى في عصر النهضة، حيث كان يحظى بمكانة رفيعة في ذلك العصر، يعجب به الملوك والأمراء ويقربونه إليهم، ويحرصون على وجوده في بلاطهم دليلاً من دلائل العظمة والتحضر والرقي، وكان ثيمة متكررة في لوحات الكثير من الرسامين، الذين صوروا عود عصر النهضة أو عود الرينيسانس بصور مختلفة، منها الانحناء بالجسد على العود وملامسته خد العازف، وهي حركة معروفة عند العرب على وجه الخصوص، يقوم بها بعض عازفي العود كفريد الأطرش على سبيل المثال، ويبدو أن العود يستحث عازفه أحياناً على القيام بهذه الحركة واتخاذ تلك الوضعية، لأننا نرى اليوم من العازفين الأجانب الشباب من يقوم بها أيضاً، سواء في عزفهم على عود عصر النهضة، أو في عزفهم على عود عصر الباروك. وفي تلك اللوحات القديمة نرى الكثير من النساء يعزفن على عود عصر النهضة، ما يدل على أن الأمر لم يكن مقتصراً على الرجال في ذلك الوقت، ونرى بطبيعة الحال الكثير من العازفين الرجال أيضاً، يعزف المرء منهم إما للجموع في بلاط ملكي، أو لامرأة يهواها وسط الطبيعة، أو داخل الغرف الفخمة المزينة، أو يعزف وحده مستغرقاً في جمال صوت العود، ولنا أن نتخيل كم كانت هذه الآلة الموسيقية جديدة مستحدثة في عصرها، وصيحة رائجة يحرص الكثيرون على اتباعها. وكان العود حاضراً في أدب عصر النهضة أيضاً، وعند أهم أعلامه الكاتب الإنجليزي وليام شكسبير، الذي قام بذكر عود الرينيسانس في أشعاره ومسرحياته، كمسرحية ريتشارد الثالث، وترويض النمرة، وهاملت، وهنري الرابع، وغيرها من الأعمال، ويقال إنه كان يتم العزف على عود عصر النهضة، عند تقديم مسرحيات شكسبير في ذلك الزمان وخلال العروض نفسها، ويقال أيضاً أن شكسبير كان يرى في صوت العود القدرة على التعبير عن مشاعر الحب.
سُمع صوت العود في أوروبا طوال عصري النهضة والباروك، وألف له عباقرة الموسيقى الكلاسيكية الكثير من المقطوعات، وجمعوا بينه وبين الآلات الموسيقية الأخرى، وجعلوه شريكاً للغناء والصوت البشري المنفرد في بعض آريات الأوبرا والأغنيات القصيرة. يمكن التعرف على عود الرينيسانس أو عود عصر النهضة مباشرة، وتمييزه عن غيره من الأعواد العربية أو الباروكية، من خلال ذراعه القصيرة العريضة التي تضم عدداً كبيراً من الأوتار، وتجعله يبدو أصغر حجماً من العود العربي، وأكثر صغراً بالنسبة للعود الباروكي الذي يعد ضخماً للغاية، يُصنع عود عصر النهضة بطريقة مشابهة لصناعة العود العربي، من شكل الجسم وفتحة الصوت، لكن عود عصر النهضة يطغى عليه شكل الخشب ولونه الذي يكاد يكون خالياً من أية تطعيمات زخرفية، فيبدو بسيطاً أو ربما غير مكتمل بالنسبة للبعض، لكن الذراع تكون معقدة إلى حد ما مليئة بالأوتار، وبعض المفاتيح والقطع التي تقسم عمل هذه الأوتار. وكما تميز الذراع القصيرة العريضة عود عصر النهضة، فإن الذراع أيضاً هي التي تميز عود عصر الباروك وبشكل أكثر قوة، إذ إن ذراع عود عصر الباروك تكون طويلة للغاية ومثيرة للتعجب، وتمنح العود مظهراً ضخماً تجعله ينضم أو يقترب من فصيلة الآلات كبيرة الحجم كالهارب والكونترباص على سبيل المثال، فعندما يرى المرء ذلك العود الضخم بذراعه بالغة الطول، يعرف بما لا يدع مجالاً للشك أنه أمام موسيقى من عصر الباروك لا أي عصر موسيقي آخر، أما صوته فقد يبدو وسطاً بين العود العربي والجيتار، وكذلك عود عصر النهضة، ولكل من عود عصر النهضة وعود عصر الباروك أنغام رقيقة مرهفة ووقع حلو على أذن السامع، ويستطيع كل منهما أن يخاطب المشاعر بلغة بسيطة غير معقدة، قد يشعر السامع العربي على وجه التحديد، بأن العود يتحدث لغة أخرى غير لغة العود العربي، أو أنه اكتسب لهجة أو لكنة معينة، لكن الروح العميقة للعود العربي تظل حاضرة في ثنايا النغمات، التي لم تفقد رقتها وشاعريتها، وقد يشعر السامع العربي أيضاً أنه يفتقد بعضاً من الشجن في صوت ذلك العود الأوروبي، لكنه على كل حال سيشعر بأن هناك في أعمال تلك الآلة الأوروبية نقطة عربية لا تزول. تتميز موسيقى العود في عصر الباروك عن عصر النهضة، بأنها كانت أكثر ميلاً إلى تشعب الخطوط والتنميق والتزيين والزخرفة الموسيقية، والتركيز على إتقان الصنعة والتدقيق في تفاصيلها الفنية. عندما يذكر عود عصر النهضة، يذكر على الفور اسم الموسيقار الإنجليزي جون داولاند، الذي يعد من أهم أعلام الموسيقى في عصر النهضة، ومن أبرز من ألفوا للعود وصاغوا الأغنيات على ألحانه، وله الكثير من المؤلفات الرائعة التي قد يتعجب السامع من جمالها رغم قدمها الشديد، ومن أجمل هذه المؤلفات (دمعة)، و(الآن.. الآن) و(روبن) وغيرها. وكذلك ألف باخ الذي يعد سيد عصر الباروك في مجال الموسيقى، الكثير من المقطوعات للعود الباروكي في قالب المتتالية وقالب البارتيتا أيضاً، وفي أوبرات هاندل الذي اهتم كثيراً بالغناء، اعتمد الموسيقار على العود كآلة رئيسة في تلحين بعض آريات الأوبرا لصوت الكونتر تينور من الرجال، وصوت الميتزو سوبرانو من النساء، ومن أجمل هذه الآريات آريا بعنوان (أومبرا ماي فو). أما الموسيقار الإيطالي أنطونيو فيفالدي صاحب الفصول الأربعة، الذي تتسم مؤلفاته بالحيوية والرشاقة والتعبير العاطفي البليغ؛ فقد ألف للعود الباروكي أجمل الألحان الموسيقية، وعلى رأسها كونشرتو العود.