تشكل البادية السورية نحو 55 % من مساحة سوريا، حيث تتوزع مناطق البادية على عدة محافظات سورية، منها: ريف العاصمة دمشق، وحلب في الشمال، وحمص في الوسط، والمنطقة الشرقية، والجزيرة الفراتية، ومنطقة حوران، وجبل العرب في الجنوب، كما تعد مدينة تدمر الشهيرة عاصمة البادية السورية ومركزها. وتضم البادية عشرات ألوف الإبل التي يقوم سكان البادية بتربيتها والاستفادة منها في إنتاج الحليب واللحم والتنقل، واستخدامها في مناسبات الأفراح والأعراس في طقوس تراثية جميلة، ما يزال العديد من القبائل البدوية محافظاً عليها، حيث دخلت في الذاكرة الشعبية السورية.
سلالات الإبل في سوريا
تنتمي الإبل السورية لسلالتين، وهما: (الإبل الخوار): وهي تنتشر في البادية الشمالية وبادية الجزيرة بين سوريا والعراق، وتتميز بكونها متوسطة الحجم، ذات رأس صغير، وأطراف رفيعة ومرتفعة، ولونها فاتح. لها إنتاج جيد من الحليب. والثانية: (الإبل الشامية): تنتشر في البادية السورية عموماً، وهي صغيرة الحجم، وبرها طويل، صفراء أو وضحاء اللون (مغاتير). وأشارت دراسة للمركز العربي لبحوث الأراضي الجافة والقاحلة (أكساد) الذي يأخذ من دمشق مقرّاً دائماً له، ويتبع جامعة الدول العربية، نشرت قبل فترة؛ إلى أن هناك سلالات أخرى في سوريا، مثل: (إبل الحرة) التي تنتشر في المناطق كثيرة الحصى والحجارة، وتتميز ببروز قصبة الأنف. وأوضحت الدراسة أن أسماء متعددة تطلق على الإبل، منها: البعير والنوق وحمر النعم، وتختلف أسماؤها من قبيلة إلى أخرى، إذ تسمى (العيس وفاطر وذلول ومطية وبعير)، وتسمى حسب ألوانها، فمنها: (الأوضح) وهو الجمل ذو اللون الأبيض، و(الأصفر) ذو اللون الأصفر الباهت، و(الأحمر) ذو اللون البني أو البني المحمر، و(الأزرق) ذو اللون الرصاصي، و(الأشقح) ذو اللون الأزرق الفاتح، و(أبيض القوائم الأمامية)، و(الأملح) أو الأسود ذو اللون الأسود، و(الأشهل) ذو اللون الأشقر، و(الأعطر) وهو بين الأبيض والأشقح.
وقد أقيمت العديد من مراكز الأبحاث الخاصة بالإبل والمحميات الطبيعية، بقصد المحافظة عليها، وتحسين سلالاتها، ومنها ما هو تابع لوزارة الزراعة السورية، أو تابع للمركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة (أكساد). ومن هذه المراكز والمحميات: محطة الإبل في غوطة دمشق، ومركز وادي العذيب في بادية محافظة حماة، ومحميات التليلة في بادية تدمر، والبلعاس في بادية حماة، وجبل عبدالعزيز في بادية الحسكة.. وغيرها. ويقوم الباحثون والخبراء المتخصصون بالإبل بأبحاث علمية وتجارب ميدانية لتحسين إنتاج الإبل بالانتخاب، حيث يشمل ذلك التحكم بالحليب ووزن المواليد ومعدلات النمو، مع أخذ قياسات الجسم، وتوزيع الإبل المحسّنة على المربين من خلال التواصل معهم، أو من خلال جمعيات خاصة بمربي الإبل تنتشر في مناطق تجمعات المربين، كما في منطقة الرحيبة بريف دمشق وتدمر في وسط البادية.. وغيرها.
انتشار صناعة مستلزمات الإبل بشكل يدوي تراثي
انتشرت في المدن السورية الكبرى القريبة من البادية، منذ عشرات السنين؛ ورش تصنيع مستلزمات الإبل بشكل يدوي تراثي، مع مستلزمات تربية الخيول العربية الأصيلة، حيث تخصص بهذه الصناعة اليدوية حرفيون مهرة، توارثوها أباً عن جد، وورّثوها أولادهم. فيما يتخصص سوق تراثي في منطقة الأسواق القديمة بدمشق، وهو (سوق السروجية) بوجود حرفيي مستلزمات الإبل والخيول، حيث يقومون بتصنيعها في محلات السوق وأمام الزوار والمتسوقين ويعرضونها في واجهات حوانيتهم.
وفي جولة بسوق السروجية الذي يؤكد الباحثون والمؤرخون أنه من أقدم أسواق دمشق المسقوفة، حيث يجاور قلعتها الأثرية؛ وحسب هؤلاء فإن السوق تأسس لتأمين سروج الخيل ومستلزماتها في فترة القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي الذي كان يأخذ من القلعة مقرّاً له ولجيشه وخيوله.
في سوق السروجية يتحدث أحد حرفيي صناعة مستلزمات الإبل التراثية قائلاً: أقوم بتصنيع الهودج (شداد الخشب) ومستلزماته كالخرج والطراحة والرسن، وما نزال نحافظ على استخدام المادة الأولية الرئيسة في التصنيع، وهي (الصوف والخشب البلدي وقماش الجوخ). وحول مراحل العمل يوضح الحرفي: فيما يتعلق بالهودج، ونسميه شداد الخشب؛ نقوم بتجهيزه بالمنشرة، ومن ثم نعمل في ورشتنا على شدّه بالجلد، ويزخرف بواسطة الحرق على الخشب، ونقوم فيما بعد بتجهيز (الطرّاحة) الخاصة به المحشية بالصوف، وهي من الجلد، ونصممها بشكل جميل، بحيث تكون عليها رسومات وزخارف خاصة تتلاءم والهودج وطبيعة الإبل والصحراء، وبعد ذلك يأتي تجهيز (الخرج)، ويصنع يدوياً، وهو عبارة عن قماش و(شراشيب)، حيث نحرص على شكله العربي التقليدي، وهناك (الرسن) أي (الرشمة) الخاصة بالجمل، ونصنعها من الصوف وبأسلوب خاص نسميه (ظفر اليد)، ونقوم بتزيينها بالودع، مثل الصدف البحري والخرز، لإعطاء جماليات خاصة بالرسن، فيعطي ذلك شكلاً جمالياً يرغبه مربو الإبل، وليست الغاية هنا وظيفية، بل جمالية تزيينية، وهناك الشراشيب الملونة، حيث تتميز بألوان عديدة زاهية لتلبية جميع أذواق مربي الإبل، كذلك نصنّع الجنزير الحديد والمقود الذي يشد الجمل. وما يميز منتجاتنا -هنا يتابع الحرفي- هو الشكل والرسومات والزخارف اليدوية، كذلك كنا نستخدم خشب الجوز في تصنيع الهودج، وكان متوافراً بكثرة في غوطة دمشق، وحالياً وبسبب قلته تحولنا لتصنيع الهودج من الخشب المتوافر بالأسواق كالشوح والسويد والصنوبر.
حرفي شاب آخر يعمل بحرفة مستلزمات الإبل يقول: ورثت الحرفة عن والدي، وهو الذي ورثها عن جدي بسوق السروجية، وقد قررت الاستمرار بها وتطويرها، حيث أصنع حالياً الهودج والكرسي الخاص به، ويستغرق العمل بالهودج الواحد نحو خمسة أيام، حيث يتم تصنيعه من خلال خرط الخشب، وهو خشب الجوز كما كان آباؤنا يستخدمونه في عملهم، ويمكن استخدام أخشاب أخرى، ولكون الجوز أجمل، حيث نقوم بشده بالجلد، وله أبعاد دقيقة ومواصفات محددة نتقيد بها لتنزل على سنام الجمل بشكل منتظم.
تحويل هوادج الإبل إلى آرائك فاخرة
ولخصوصية الهودج، وبسبب شكله المميز وعراقته؛ حوله العديد من الحرفيين إلى آرائك فاخرة، بحيث يتم التفاخر به في المضافات البدوية والبيوت العربية التقليدية، ويتكئ عليها الضيوف وأصحاب هذه المضافات بدلاً من المساند والآرائك العادية. ويشرح هنا حرفي آخر في سوق السروجية تخصص بهذا المنتج اليدوي التراثي قائلاً: لجماليات الهودج وزخارفه يستخدمه العديد من أصحاب المضافات في البادية ومناطق حوران وجبل العرب جنوب دمشق في مضافاتهم آرائك فاخرة يتباهون بها أمام زوارهم، وهنا يكون عملنا به منسجماً مع أسس صناعة الهودج، بحيث يبقى الهودج محافظاً على شكله الأساسي، إذ هناك (الطربوش) من الأمام وآخر من الخلف، ولكن (الهودج الأريكة) يفتقد للحزام الذي نزوده به ليثبت على الجمل من الأسفل.
كذلك يقوم العديد من الحرفيين في الأسواق التراثية السورية بتصنيع نماذج مصغرة للإبل من الخشب أو النحاس، أو نحتها من حجر البازلت، وبيعها للزوار وهواة اقتناء الأشياء التراثية ليعرضوها في صالوناتهم وغرف الجلوس العربية، وكذلك لعرضها في المطاعم والفنادق التراثية مقتنيات تزيينية من التراث السوري.
الإبل في الذاكرة الشعبية السورية
ما تزال الإبل ومفرداتها التراثية مترسخة في الذاكرة الشعبية السورية والعادات والتقاليد والغناء والأهازيج الفلكلورية، من خلال طقوس الأفراح والأعراس والمناسبات الاجتماعية التي تستخدم فيها الإبل. كما تضم العديد من المتاحف الشعبية في المدن السورية أقساماً لتراث الإبل والجمال، كذلك كانت تقام مهرجانات المزاينة للإبل ضمن مهرجان تدمر والبادية السياحي التراثي السنوي، وفي مهرجان الربيع بمحافظة حماة وسط سوريا، ومهرجان الفرات السياحي في محافظة دير الزور شرق سوريا، وما يزال البعض من سكان البادية محافظين على تقاليد العرس البدوي باستخدام الجمال، واستخدام الجمل في التنقل والترحال أيضاً، حيث يتم تحديد استخدام الجمال حسب وظيفتها، وهي ثلاثة: الأول: جمل مخصص لقائد القافلة. والثاني: جمل عليه هودج، ويستعمل في احتفالات الزواج، حيث تجلس العروس داخل الهودج محمولة على جمل يرافقها المشاركون في حفل الزفاف من خيمة أهلها إلى خيمة العريس، وهم يغنون ويرقصون تلك الرقصات التي مازالت ولو على نطاق ضيّق حتى الآن في البادية السورية. والثالث: جمل عليه هودج صغير(القن)، ويستعمل لتأمين الظل للأشخاص المسنين والمرضى.
ومازالت الأغاني والأهازيج المرتبطة بالإبل حيّة في ذاكرة السوريين، ومنها تلك الأهزوجة التي تؤدى بالأعراس، عند قيام المحتفلين بالعرس بزف العروس لبيت عريسها، فيرددون تلك الأهزوجة التراثية الجميلة، والتي تقول كلماتها:
(نخّ الجمل قومي اطلعي يا نايفة والخيل تعبت والامارة واقفة)
ويسبق الأهزوجة السابقة أهزوجة أخرى تؤديها صديقات العروس عندما تخرج العروس من بيت ذويها، يقولون فيها:
(تحَلحَل يا جَمل بالله تحَلحَلْ عنّا بنية اليوم بدها تِرْحَلْ)
كما قام ويقوم العديد من الرسامين السوريين برسم الإبل بلوحاتهم الفنية، وبخاصة تلك المتعلقة بتراث البادية ورمزية الإبل في الذاكرة الشعبية السورية، ومن أشهرها لوحة الرسام الشعبي السوري (أبو صبحي التيناوي) حول (محمل الحج الشهير)، والجمل الذي يقود قافلة الحج الشامي وعليه المحمل المتجه نحو الديار المقدّسة والذي يعرض في متحف التقاليد الشعبية (قصر العظم بدمشق).