د. مشاري النعيم: الحنين للأمكنة القديمة تعويض لما نفقده في المدينة المعاصرة
حوار: عبدالرحمن الخضيري: الرياض
مع الانفراجة الأولى لجائحة كوفيد 19 وتخفيف الدولة لبعض إجراءاتها الاحترازية لمواجهة الآثار المتوقعة لهذه الجائحة، أكملت ما بدأته من جولات سياحية لعدد من القرى التراثية النجدية التي عادت لها الحياة من جديد، بفضل تسابق ملاكها وأحفاد سكانها الأوائل وإعادة ترميمها، بتشجيع ودعم من الجهات ذات العلاقة لتنتعش في سككها وممراتها وبيوتاتها المتراصة الحياة لتتحول إلى مزارات ومقاصد سياحية، رافقني سؤال طوال هذه الرحلة التراثية: كيف نفسر العودة للقرى والأماكن التراثية الحالية؟ هل هو حنين للماضي، أم اعتزاز بالهوية، أم مجرد موضة عابرة؟ لملمت أوراقي وتساؤلاتي وقصدت الخبير الأكاديمي المعماري الدكتور مشاري بن عبدالله النعيم، أستاذ النقد المعماري في كلية العمارة والتخطيط بجامعة الإمام عبدالرحمن الفيصل، صاحب (الأحاديث الحمراء: رحلة إلى التراث الأندلسي)، ومؤلف (سفر العمران) و(سيرة في التراث العمراني)، بالاشتراك مع الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز.
و في حوارنا مع الدكتور مشاري بين لنا أن هناك تقاطعات كبيرة بين الحنين للماضي والاعتزاز بالهوية، داعياً إلى التحدث عن ذلك بواقعية، ومشيراً لما أثير خلال العقود الأخيرة بشكل كبير لدى بعض المفكرين حينما يتحدثون عن الانفصال الثقافي بين واقع المجتمع السعودي وماضيه القريب وما أحدثته المدينة المعاصرة، مبرزاً أن أحد العوامل المهمة التي دفعت إلى تنامي الرغبة في العودة للقرى التراثية هو هذا الارتباط الأسري بمكان النشأة، فمسقط الرأس له قيمة كبيرة في تشكيل العاطفة، داعياً إلى التفكير في التوظيف المتوازن لهذه المواقع اقتصادياً كي تنفق على تشغيلها ذاتياً واستدامتها لأن -حسب وجهة نظره- الاعتماد على عاطفة الناس فقط لن يساهم في بقاء الظاهرة، ولن يبقى الحماس على ما هو عليه لفترة طويلة.
العودة إلى القرى التراثية هل هو حنين للماضي أم اعتزاز بالهوية؟
- في البداية يجب أن نوضح أنه يوجد تقاطعات كبيرة بين الحنين للماضي والاعتزاز بالهوية، لذلك فإنه من الأفضل التحدث بواقعية عن أن كل بحث عن الهوية يبدأ من الحنين للماضي المتميز والمختلف. مفهوم الهوية يعتمد في الأصل على وجود (المرجع) الذي يربط مجموعة من الناس ويمثل هذا المرجع المعيار الذي يتم من خلاله تحديد الارتباط مع الآخر. وإذا ما ربطنا بين العودة للقرى التراثية والجدل حول هذا السؤال المهم يجب أن نقول إن ظاهرة العودة للقرى التراثية في المملكة تشير إلى عدة قضايا، فموضوع الهوية أثير خلال العقود الأخيرة بشكل كبير وصار بعض المفكرين يتحدثون عن الانفصال الثقافي بين واقع المجتمع السعودية وماضيه القريب ولم يكن هناك شواهد مطروحة على اختلال الهوية إلا ما أحدثته المدينة المعاصرة من تشتت لمفهوم المرجع وتفكك لمعنى الرابطة، وهذا يمثل خطراً اجتماعياً وثقافياً بالنسبة للبعض، لذلك لم يكن أمام هؤلاء إلا القرى التراثية التي كانت تختفي بشكل متسارع في الفترة الأخيرة، ما أوجد مخاوف كبيرة على الذاكرة التاريخية للمجتمع السعودي التي تأسست ونشأت في تلك القرى وارتبطت بتلك الأماكن. أحد العوامل المهمة التي دفعت إلى تنامي الرغبة في العودة للقرى التراثية هو الارتباط الأسري بمكان النشأة، فمسقط الرأس له قيمة كبيرة في تشكيل العاطفة، والجيل الذي نشأ في تلك القرى مازال يحن لتلك الأمكنة القديمة لأنه لم يجد التعويض المناسب في المدينة المعاصرة.
هل يمكننا ربط هذا الحنين بمفهوم الوطنية الحديث؟
- نستطيع أن نقول إن مكمن ظاهرة العودة للقرى التراثية هي الذاكرة والحنين للماضي واختلاطها بمفهوم الهوية الشخصية أو الأسرية وليس الوطنية التي نشأت وتطورت مؤخراً بعد برنامج القرى التراثية الذي أسسه الأمير سلطان بن سلمان في بداية تأسيس هيئة السياحة حتى قبل انضمام قطاع الآثار للهيئة. لقد بدأت قرية رجال ألمع وقرية أشيقر في الوشم بالرياض بالعودة للمكان التاريخي بدافع شخصي وفي وقت مبكر قبل أن تصبح ظاهرة، وكما ذكرت الدوافع كانت مرتبطة بالذاكرة وبالارتباط العاطفي بالمكان في البداية ولم يكن لها أهداف اقتصادية ولكن مع الوقت بدأ الناس يستشعرون الفرص الاقتصادية الكبيرة التي تقدمها هذه القرى، فهي أماكن متفردة في مكونها وغير متكررة ولا تتوقف عند الذاكرة المكانية الخاصة التي تربط السكان بهذه الاماكن.
هل يعد الاستثمار السياحي لهذه القرى مساراً صحيحاً للمساهمة في تغيير الصورة النمطية (السلبية) عن موروثنا الثقافي؟
- السياحة الثقافية متعارف عليها على مستوى العالم ولا أرى أنها تؤثر على الموروث الثقافي سلباً بل هي فرصة للتعريف بالموروث وتقديمه للعالم. أذكر أن الأمير سلطان بن سلمان وصف القرى التراثية بالنفط الأبيض، وقال إنها آبار نفط غير ناضبة. أكثر ما يقلق العالم في هذا المجال هو التوظيف الجائر للتراث في مجال السياحة، لذلك فقد عقدت منظمة السياحة العالمية مع اليونسكو أول مؤتمر حول التوازن بين المحافظة على التراث وبين توظيفه سياحياً في كمبوديا قبل عدة سنوات. الهدف الأساسي وراء ذلك المؤتمر هو تنظيم السياحة الثقافية بحيث لا تؤدي إلى تدهور المواقع التراثية. وقد بدا واضحاً أن إحداث حالة من التوازن بين الثقافة والاقتصاد يتجسد في الكيفية التي يفترض أن يتم التعامل بها مع القرى التراثية كوجهات سياحية. وكما ذكرت سابقاً أن مفهوم الاستثمار السياحي واكتشاف المكامن الاقتصادية لتلك القرى لم تصبح واضحة إلا خلال العقدين الأخيرين وكانت في حالة تصاعد بطيء إلى السنوات الأخيرة التي ساهمت فيها التحولات الكبيرة التي تعيشها المملكة في الوقت الراهن وانفتاحها على العالم ضمن رؤية 2030.
في اعتقادي أن المملكة تملك فرصة كبيرة جداً لتحويل مواقعها التراثية إلى مجال مفتوح لتقديم التاريخ والثقافة السعودية ومجال لتنوع مصادر الدخل. وتكمن هذه الفرصة في التنوع البصري والجغرافي لهذه القرى وتراثها الملموس وغير الملموس والحكايات الممتدة في عمق التاريخ التي تحكيها تلك الأمكنة. ومن المعروف أن السياحة الثقافية تقوم على (التنوع) و(الحكاية) التي تجعل للمكان حضوراً مرتبطاً بتاريخ الناس عبر الزمن. ربما نحن في بداية الطريق، لكن أرى أننا في مرحلة انتقالية ستصبح بعدها القرى التراثية في المستقبل القريب مجالاً مهماً لتنوع مصادر الدخل في الاقتصاد الوطني.
كيف ترد على من يرى أن المحافظة على هذه القرى والمنازل دون استخدامها يحافظ عليها ويؤدي إلى استمراريتها؟
- من الناحية العملية لا يمكن استدامة مواقع التراث دون وجود من يستخدمها، وبالتالي تحول هذه المواقع إلى وجهات سياحية يساعد بشكل كبير في المحافظة على القرى التراثية، وبدلاً من أن تترك هذه الأماكن للخراب أو أنها تستخدم بشكل عاطفي من قبل بعض السكان وتصبح مصدر إنفاق، فإن توظيفها سياحياً سيساهم بشكل كبير في المحافظة عليها واستدامتها. هناك دائماً جدل حول هذا الموضوع، فهناك من يؤمن بالمحافظة على المواقع دون استخدامها لأسباب مرتبطة بتاريخ الأسرة، وهذا توجه عاطفي محض ويمثل عبئاً اقتصادياً لا يمكن تحمله لفترة طويلة، وبدلاً من ذلك يجب التفكير في التوظيف المتوازن لهذه المواقع اقتصادياً كي تنفق على تشغيلها ذاتياً واستدامتها، بل وتوفير العديد من الوظائف ومصادر الدخل لملاكها وسكانها.
اندفاع الجيل الحالي إلى القرى التراثية ومساكن الأجداد هل سيولد علاقة وشغفاً مستمراً أم مجرد موضة عابرة؟
- هناك نظرية معروفة في مجال التراث للناقد في مجال الفنون (هربرت ريد) تقول: (من النفعي إلى المقدس). ومفهوم هذه النظرية يشير إلى أن الارتباط بالمكان وبالأشكال المادية تبدأ بالوظيفة والمجالات النفعية وترتقي كي تحتل مجالاً عاطفياً عميقاً لتصبح الأمكنة والأشياء مقدسة وذات قيمة كبيرة لدى الناس يصعب التفريط فيها. لكن هذه النظرية تمثل إشكالية في القرى التراثية السعودية، فهذه الأمكنة لها قيمة عاطفية كبيرة وانفصلت في فترة زمنية معينة عن سكانها وبدأت في العودة مرة أخرى محملة بطبقات من الحنين للماضي واستذكار للذاكرة المجتمعية وبالتالي فإن الجدل حول إن كان هذا الحنين مؤقتاً أو دائماً مرتبط بتطور مفهوم الارتباط بالمرجع وبمفهوم فسيفسائية الهوية الوطنية التي يفترض أنها تعني التنوع داخل الوحدة أي الاعتزاز بالارتباط بالمرجع الشخصي والأسري لكن داخل إطار الوطن الكبير، وهذا يضمن مسألة التنافس والسباق من أجل حفظ هذه الإمكانية المهددة بالزوال.
البعد الآخر هو تعزيز الارتباط بين هذه المواقع التاريخية وبين العوائد الاقتصادية وقدرة المواقع للتحول إلى وجهات سياحية، فالقيمة الاقتصادية ضامن مهم للاستمرار، حتى بالنسبة للأجيال التي لم تعايش تلك الأمكنة والتي لا تربطها بها عاطفة قوية غير ذكريات الآباء والأجداد التي قد تضعف مع الوقت. العائد الاقتصادي واستثمار الفرص السياحية وتعزيز التنوع وتقديم التراث المادي غير الملموس الذي يميز هذه القرى سيمثل عاملاً أساسياً لتحول هذه المواقع إلى جزء من المنظومة الاقتصادية الوطنية، لأن الاعتماد على عاطفة الناس فقط لن يساهم في بقاء الظاهرة، ولن يبقى الحماس على ما هو عليه لفترة طويلة.