المجلة العربية تحاور الأديب نجيب محفوظ
حوار: جلال حمام
حي الجمالية.. بالقاهرة القديمة.. الضاحية التي يرجع تاريخها إلى أكثر من ألف عام.. هو الخلفية الأساسية لمعظم روايات صاحب نوبل، الكاتب والأديب الكبير نجيب محفوظ.
يقول نجيب عنه إنه بمجرد أن بدأ يعي ما حوله، كانت الجمالية أمامه (أفتح عيني في الصباح فأجد أمامي بيت القاضي ودرب أرمز.. ثم أصعد إلى سطح منزلنا فأرى مئذنة جامع الحسين، وأنزل إلى الشارع.. فأجد نفسي محاطاً من كل جانب بالعمار القديم الذي يميز ذلك الحي).
يضيف: (حين كبرت قليلاً.. بدأ يتشكل لدي إحساس بالتاريخ.. وبدأ أهالي الجمالية، في حركتهم اليومية وكأنهم جزء من التاريخ.. وكان هذا الحي وراء أشهر أعمالي الروائية جميعاً.. وهو “الثلاثية”).
حول الحارة.. ومصر التي لا يعرفها أحد كان هناك أكثر من نجيب محفوظ.. كان كتاب “نجيب محفوظ: وطني مصر” الذي كان نتاجاً لحوارات استغرقت أكثر من 40 ساعة سجلها الزميل محمد سلماوي.. رصد خلالها رواية صاحب نوبل لمصر: التاريخ والحضارة وأهلها الذين يسكنون الحواري والأزقة في المدينة القديمة، والذين تمتلئ بهم رواياته.
- الحارة من أعمالك.. رمز لأشياء كثيرة.. أليس كذلك؟
* نعم.. إنها في بعض الأحيان الحارة الواقعية التي عرفتها في طفولتي.. وأحياناً هي رمز للوطن مثلما في “زقاق المدن” وأحياناً هي رمز للدنيا كلها مثلما في “الحرافيش”.. لقد حرصت طوال حياتي، حتى بعد أن عينت موظفاً بوزارة الأوقاف بعد تخرجي في كلية الآداب- جامعة القاهرة، على الذهاب مبكراً إلى الجمالية للجلوس قليلاً على أحد مقاهيها القديمة قبل التوجه إلى العمل.
لقد اكتشفت خلال هذه الزيارات الصباحية أنني لست الوحيد من سكان الجمالية القدامى الذي لم يبرأ من حب الحي.. فكثيراً ما كنت أشاهد أحمد تيمور بك، الأمين بالقصر الملكي -وقتئذ- يتناول إفطاره مع خياط من الحي، مكون من الفول والبصل الأخضر.
وظللت أزور الجمالية إلى أن منعني حادث الاعتداء عليّ من ذلك، حيث منعني العلاج وإجراءات الأمن التي تتطلب عدم وجودي في الأماكن المزدحمة.. ولكن حين يستبد بي الحنين إليها.. أخرج مع الأصدقاء للنظر إلى الحي من داخل السيارة، لأرى من فوق “الجسر” العلوي مئذنة جامع الحسين، أو قهوتي التي اعتدت، وأتخيل حواري الجمالية الصغيرة، والأزقة التي لا أظن أنني سأراها ثانية.
- إلى جانب الحارة المصرية القديمة.. تغلغل النيل في الكثير من أعمالك الأدبية.. ابتداء الاحتفال به في “رادوبيس” إلى وصفك له أثناء مشاهد الحرب في رواية “كفاح طيبة”.. حتى يكاد النيل يتحول في رواياتك إلى رمز متجدد يحمل الكثير من المعاني والإيحاءات.
* رغم أنني ولدت في حي شعبي ونشأت بعيداً عن الحدائق والماء.. إلا أنني تربيت على عشق النيل منذ الصغر.. فكانت أمي تأخذني إلى شاطئه للفسحة.. وكانت هي مغرمة بالخضرة والمياه.. فبهرت به وبجماله منذ صغري، ومازلت أذكر كيف كنت أتدلى من سور “كوبري أبو العلاء” لأشاهد تدفق مياه النيل ووالدتي ممسكة بي حتى لا أسقط.. واستمر عشقي للنيل رغم تعرضي لموت محقق به أنا ومجموعة من أصدقائي كنا نركب مركباً صغيراً للنزهة فيه.. ومرت بجوارنا إحدى السفن النيلية الكبيرة، فأحدثت موجاً كاد أن يقلب المركب بنا، لولا توفيق الله ثم حسن تصرف أحد أفراد الشلة.
- ارتبط النيل في الكثير من رواياتك بالموت.. في “بداية ونهاية” تنتهي الأحداث بإلقاء نفيسة لنفسها في النيل.. وفي “ثرثرة فوق النيل” كان اختيارك للعوامة الطافية فوق مياه غير ثابتة موقعاً لأحداث الرواية، يعكس فترة القلق والاضطراب وعدم الاستقرار التي عاشتها مصر بعد حرب يونيو 1967م.
* نعم.. ولكن خواطر ساكن العوامة في “ثرثرة فوق النيل” كنت مليئة أيضاً بعشق النيل.. لقد مشيت في حياتي آلاف الأميال على النيل.. وجلست على شاطئه حتى عرفته المعرفة الحقة.. وكثيراً من تلك الجلسات كانت تمتد حتى الفجر.. أفكر خلالها في كل شيء، لأنها لحظات صفاء وتأمل.. وكانت معظم أفكاري تدور حول أعمالي الأدبية التي كنت أستعد لإنجازها.. وحينما تعرفت على “الحرافيش” كنت آخذهم في بعض الأحيان معي.. وكنا نجلس في منطقة كان بها دائرة تشبه الميدان.. نتحدث عن إحباطاتنا باعتبارنا شباباً لا يجد فرصة نشر أعمالنا الأدبية والفكرية.. ومن كثرة التشاؤم بيننا أسمينا المكان “الدائرة المشؤومة”!
- كيف رأيت الشخصية المصرية؟
* أكثر ما يميز الشخصية المصرية.. هو قدرة المصري على الصبر على المصائب أياً كان نوعها، اجتماعية أو سياسية.. كما أنه متدين جداً، ربما كان ذلك لأنه في فترات انتظاره الطويلة التي فرضت عليه ألواناً من الصبر، وجد أن عليه أن يفكر في الكون وفي الخليقة، وفيما بعد الموت.. لأنه وجد في الدين الإجابة على جميع أسئلته: لماذا أحيا؟ ولماذا أموت؟ وإلى أين المصير؟.. والمصري أيضاً إنسان وفيّ إلى أبعد درجة، وتاريخه مليء بما يشهد على ذلك.. ثم إني أجد أن روح الفكاهة من الخصائص الأساسية للشخصية المصرية.. لأن الإنسان الذي لديه صبر الانتظار، فإن روحه تكون سمحة، تميل للدعابة، وقد استعان المصري دائماً على الملمات التي تقابله بالفكاهة والدعابة لأنها تساعده على تحمل بعض متاعبه الشخصية مثل محدودية الرزق وباقي مشاق الحياة اليومية.. ومع ذلك تجد فيه مسحة حزن لا تفارقه.. هي نتاج قرون من الأسى ممزوج بالحنين والوجد.. ويكاد يقترب من أن يكون حزناً فنياً.. وهو قبل ذلك وبعده.. عازف بطبيعته عن العنف، يكره بشدة إراقة الدماء.
جميع هذه الخصائص التي تحدثت عنها، موجودة بشكل واضح في الشخصيات التي رسمتها في روايات مثل “اللص والكلاب” وغيرها.. ليس بمفهوم عالم الاجتماع الذي يحاول تصوير ملامح الشخصية المصرية.. بل تعاملت معها بتلقائية، باعتباري عايشتها في الأحياء القديمة على مدى أكثر من ثمانين عاماً.
وإذا كانت “الثلاثية” قد ظهرت في أولى مراحل نجيب محفوظ الواقعية، حيث شخصية كمال عبدالجواد الذي يؤمن بالعلم والمعرفة ويدافع عن أحداث النظريات العلمية أمام من لا يعرفون.. فإن نجيب لم يتخل في مراحله الأخيرة عن الإيمان الراسخ بأن التقدم والارتقاء هما سنة الحياة.. ففي رواية “الحرافيش” يوجه لنا سؤالاً استنكارياً واضحاً.. يقول: لو كان لشيء أن يبقى على حال.. فلِمَ تتغير الفصول؟
- هل يفضي عدم المعرفة دائماً إلى المعرفة؟
* ليس بالضرورة.. فعدم المعرفة في بعض الأحيان قد يكون هو البداية، وهو المنتهى، كما في العلم، حيث إن العالم وهو يبحث الظاهرة لا يجب أن يسأل ما هو الهدف.. لأن البحث عن الهدف يخرج من نطاق العلم ليدخل مجال الفلسفة.. فالعالم يبحث عن القوانين والنظريات التي تحكم الظاهرة، بحيث يستطيع القانون أن يعيد التجربة، فبمعرفة قانون الجاذبية تستطيع أن تطير في الهواء أو تغوص في الماء.. ولكن العلم لا يستطيع أن يسأل: ما هي الجاذبية؟ ولماذا وجدت؟
- في رواياتك (مرحلة ما بعد حرب 1967) انقلب بعض المعرفة السابقة إلى عدم المعرفة.. وبدا ذلك واضحاً مثلاً في “ثرثرة فوق النيل”؟
* تلك مرحلة أصبنا فيها على المستوى السياسي بيأس شديد، وبخيبة أمل لم تكن متوقعة بأي حال من الأحوال.. فقد كنا معتمدين على (قوتنا).. وعلى (قوميتنا) وعلى (مذهب اشتراكاتي) جعلنا على صداقة وثيقة بثاني أكبر أمم العالم.. وكان ذلك يشكل منظومة معرفية اهتزت بشدة بعد هزيمة 67.. وظهر أن تلك الإقناعات التي عشنا عليها عدة سنوات لم تنفعنا حين وضعت في الاختيار.. وهكذا تغيرت معرفتنا بهذه الاقتناعات الثلاث.. اتضح أن القوة التي كنا نتصور وجودها باعتبارنا أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط، غير موجودة، وإيماننا بالقومية العربية لم ينجدنا في محنتنا، أما علاقتنا بالاتحاد السوفيتي، فقد اكتشفنا أنه هو أيضاً يهاب مثلنا.
إذا كانت مرحلة ما بعد 67، مرحلة مراجعة لمعارفنا الأساسية في ظل الحقائق التي تبدت أمامنا واضحة وضوحاً مخيفاً.. وقد بدأ يحل عندي بعد ذلك محل القومية بمفهوأمها الرومانسي التابع للقرن 19 الميلادي، مفهوم آخر حديث أكثر عملية، يعتمد على تحقيق المصالح المشتركة بين الأقطار العربية، يتخذ من رباط اللغة المشتركة والثقافة والدين، وسيلة فعالة لتحقيق ذلك.. والقوة التي تهاوت أمامنا جعلتني أؤمن أكثر بالسلام كوسيلة أكيدة لتحقيق التقدم والرخاء.
لكن ما أن وصلنا إلى تلك المعرفة.. تبدى أمامنا مرة أخرى عدم المعرفة في ظل المعطيات الجديدة للعصر الجديد.. وأصبح علينا أن نعرف ما هو النظام العالمي الجديد؟ وما هي اتفاقية “الجات” وأين سيكون موقعنا منها؟ وهل نملك حرية الحركة إزاء هذه المعطيات الجديدة.. أم إنها مفروضة علينا.. شئنا أم أبينا؟
- ما هي بداية عهدك بالمعرفة؟
* اقتنيت عام 1930م، أي قبل 71 عاماً، كتاباً أشبه بدائرة المعارف يسمى “المعرفة الجديدة” وقتها كان عمري 18 عاماً وكنت شغوفاً به لأنه يحيط بكل الأنشطة الإنسانية التي كانت تساورني فيها أسئلة، من علوم وفنون وآداب، وقد احتفظت بهذا الكتاب طوال حياتي، لأنه كان من الكتب التي نقلتني في مجالات كثيرة من حالة عدم المعرفة إلى حالة المعرفة.
- وفي الأدب؟
* أذكر أنني كنت وأنا طالب في المدرسة، أضع قائمة للقراءة تضم أهم الأعمال التي عليّ أن أقرأها.. لكن مع قراءاتي كانت هذه القائمة تزداد ولا تقل.. فقد كان كل كتاب جديد أقرؤه يفتح عيني على كتب أخرى أجهلها.. وكنت أشعر دائماً بأن الجهل يطاردني.
توصلت في بداية حياتي إلى كتاب يسمى “حدود الأدب” لمؤلف يدعى “درنك ووتر” وآخر بعنوان “حدود الفن”.. الأول يقدم الأدب من وقت الإغريق إلى عهد مارسيل بروست.. أما في الأدب العربي، فإن معرفتي بدأت من القرآن والأحاديث والشعر الجاهلي وانتهاء بطه حسين والعقاد والمازني وهيكل وتوفيق الحكيم.. ومعظم هؤلاء قرأت جميع أعمالهم.. كما استهواني أيضاً البحتري وأبو نواس وبشار بن برد.
وأستطيع القول بأن اقتناعاتي بالفن والأدب هي من المعارف التي لم تزعزع طوال سنوات حياتي، باعتبارها نشاطاً إنسانياً سامياً، ونبيلاً لا غنى عنه من أجل سلامة الإنسان.
- ما هي مساحات عدم المعرفة في عقل نجيب محفوظ؟
* مساحات كبيرة جداً.. بل إن مساحات عدم المعرفة عندي أكبر بكثير من مساحات المعرفة، لكن لدي غريزة تتطلع دائماً إلى المعرفة.. وأنا حريص عليها كهدف أساس من أهداف حياتي.. فأنا مع المعرفة، لأنها طوق النجاة الوحيد وسط محيط عدم المعرفة المخيف الذي قدر لنا العيش فيه.
- الآداب والفنون الأجنبية تتسرب إلينا عبر وسائل الإعلام حتى حجرة نومنا ذاتها.. وإن كنا لا نستطيع أن نصد أنفسنا عنها.. فكيف نتعامل معها؟
* بالثقة بالنفس.. علينا أن نربي أولادنا على الاستقلال الفكري وعدم الانبهار دون سبب. فإذا كانت هناك فكرة، فلنفكر فيها، ونمتحنها وننظر إليها بعين نقدية.. وقد ينتهي بنا الأمر إلى رفضها أو تعديلها، أو اتخاذها كما هي إذا كانت جميلة، والمقياس الوحيد في الفن هو: أيهما أجمل.. وفي الفكر أيهما أصح، فليس هناك أقبح من التقليد الأعمى.
فأنا أعتقد ليس هناك عادة أجنبية يمكن أن تحل محل عادة من عاداتنا إلا بسبب أنها أكثر فائدة وأجمل.. وفي الثقافة.. فإن على الإنسان أن يعتز بثقافته أولاً.. وفي اختياره من الثقافات المختلفة، لا يجب أن يكون معياره في الحكم أن تلك ثقافة أجنبية وفقط.. وإنما أي الثقافتين أجمل وأيهما أكثر فائدة وأجدى؟
أنا شخصياً لا مانع لدي أن تتغير بعض عاداتنا لأننا وجدنا أجمل منها في الغرب أو في الشرق.. ولكن يجب أن نعي أن في حضارتنا أشياء كثيرة جميلة، لا يخشى عليها من التقليد الأجنبي أو الغزو الثقافي.. أما أن يحدث أن تندثر ثقافة جميلة لدينا أمام غزو قبيح، وهذا قد يحدث، فالذنب ذنبنا لأننا الذين فرطنا فيما كان يجب الاحتفاظ به.. ولا ذنب للغزو في ذلك.. لأن حماية كل ما هو صالح في تراثنا هي مسؤوليتنا وحدنا وليست مسؤولية الآخرين.
- تنوع نماذج المرأة التي ظهرت في رواياتك، يشكل موسوعة كاملة للشخصيات النسائية.. صورتهن جميعاً بدرجة المعرفة والإتقان نفسها، بل وبدرجة التعاطف نفسها؟
* أنا متعاطف من جميع أنواع البشر.. بل في بعض الأحيان، حين يكون هناك نموذج كريه، فإني أحاول أن أتجنبه، لأني لا أستطيع أن أتمثله، لذلك تبقى مثل هذه الشخصيات على الهامش.. وأنا لا أذكر أنني قد كرهت أي شخصية أساسية من شخصيات رواياتي، وهناك من الشخصيات من أدينها، لكني أحبها، ودون هذا الحب لم يكن من الممكن أن أفهمها وأن أكتب عنها.
- من هي المرأة التي أثرت على حياتك؟
* الأم كان لها دور كبير في حياتي، وكذلك الزوجة.. والحب بمعناه الأفلاطوني كان له أثر كبير عليّ في سن المراهقة، ثم أتى بعد ذلك الحب الناضج.. وتقلبي في القاهرة من قمتها إلى أسفلها ومن أسفلها إلى قمتها جعلني أخبر النساء من جميع الأشكال والألوان.
- ذكرت في بداية الحديث أن علاقتك بنهر النيل بدأت بأمك.. فماذا كان دورها في حياتك؟
* كان دوراً كبيراً.. في عصرنا كانت الأم سيدة البيت ولم تكن موظفة.. كان الزوج يعمل خارج البيت فكانت صلة الأم بالأبناء قوية.. وكانت كل شيء.. وقد استفدت من أمي حناناً مازلت أذكره وأشعر بدفئه رغم أنني تخطيت الثمانين عاماً.. كما كان لأمي دور معرفي كبير في حياتي رغم أنها كانت كبيرة السن من الجيل القديم، لا تعرف القراءة والكتابة.
نشر الحوار في العدد 293 (جمادى الآخرة 1422هـ / سبتمبر 2001م).