نقف على أعتاب الحياة مترددين، لا نعي مصيرنا وماتؤول إليه أحوالنا، متخبطين، لا ندرك الى أين تأخذنا أقدامنا، ساعين للكمال وحسب، مؤمنين بالله، متوكلين عليه، راجين رضاه، ونخشى عذابه وحسابه.
تذهب بنا الطرق إلى مفترقات عديدة، نواجه بها مختلف الأشكال، تتشابه أرواحهم، وتتضاد مقاصدهم، نمضي وتمضي بنا الأيام حتى تتراكم لتصبح أشهراً وسنوات، مضت وأكلت من أعمارنا ماتشاء. لا نكاد ندركها إلا وقد انقضت عقود وتناهشتها مخالب الأزمنة. قد يحدث أحياناً أن تترقب من حولك بصمت قاتل، تقرأ لغة العيون، وتلمح مقاصد النوايا وما خلفها. تجلس برفقة أحدهم، تتعجب من منظوره ومبدئه، لتدرك حتماً أن ليس كل إنسان إنسان بحق، وأن الأحاديث وإن قصرت تنمّ عن طبيعة جُبِل عليها الشخص وهي ماكوّنته. تنصت إليه بإذعان لتدرك مكنون نفسه، وما آل به لما هو عليه الآن. تصل لقناعة أخيرة أن كل من تقابله يحمل لك رسالة مغزاها بأنهم مراحل ومحطات، لا ديمومة بالعلاقة ولا تضحية حتى الموت، وكأن القناعات والقيَم الماضية نُسِفت إلى قاع سحيق تعجز أن تطوله وتنفضه مرة أخرى، لتدرك بأنك يجب أن تتجنب لاحقاً وعود البدايات، وتدع علاقاتك تمضي كما هو مقدر لها أن تمضي، فمن أرادك لخير سيبقيه الله كيفما يشاء، ومن أرادك لشر ادعُ الله دائماً أن يزيحه عنك.
تذكر فقط أن من أراد بك عيباً سيجده، ومن أرادك رغم عيوبك سيثبت نفسه ويهز الأرض بمن فيها لأجلك. فقط إياك أن ترتجي حباً زائلاً متحولاً، ولا تطرق أبواباً صدئه، أغلقت منافذها دونك لتريح شعوراً اخترت أن تؤمن به. وحين تأبى نفسك إلا أن ترمي اللوم على قبيلك، عوضاً أن تتحمل عاقبة ماعصفت به رياحك؛ كن شجاعاً وواجه أخطاءك ومعاناتك، واحرص أن تكون صادقاً معها.
ختاماً، وللفأل الحسن فقط؛ سأحكي لكم حكاية قصيرة سريعة، بنبرة هادئة وصوت خافت خشية أن يلاحظني أحد:
في صغري أحببت كرتوناً يسمى (صاحب الظل الطويل)، طالما انتظرته على التلفاز مراراً، يحكي قصة فتاة أتاها السند من حيث لا تحتسب، وردّ الحياة، فأزهرت بقربه بساتين الفرح. وهكذا تبدأ أغنية الشارة: (يا صاحب الظل الطويل.. أجبني: من تكون؟ من أنت؟ من تكون؟ فتحت لي الأبواب.. حملت لي العطايا لتهدي بها الأحلام، أشعلت بدربي الشمعة، عن خدي مسحت الدمعة).
أسترجعها كثيراً لتصول وتجول بذاكرتي، تحمل معاني الإخلاص واللاخلاص، إلى أن همست لي صديقتي: لقد جاء، لقد جاء.. علياً عن كل ذكر وشعور، لطيفاً بالغياب وبالحضور، أحببته احتراماً بلا شروط ولا قيود، لا لشيء سوى نبرة الصدق التي يحملها رغماً عنك.
أقاطعها قائلة: هل رأيته أو قابلته؟
أجابتني: لا، فقط رسمت صورته بمخيلتي، هذّبني وعلمني وأرشدني،
ودلّني على معاني يتفرد بها الرجل الطيب السخيّ، من يحمل بداخله هم الجميع ومسؤولية كل أنثى، أضاء بوجوده سمائي، ووضع لحضوره لمسة مُختلفة، تفرّد بها هو وحسب. صار لي صاحب الظل الطويل، وصرت له رجل الصدفة وامرأة القدر.
أتأملها ولم تفارق البسمة محياي، سعيدة لها، على أمل أن ألقاه أنا كذلك يوماً ما.