تذكر موسوعات الفنون أن التماثيل المنحوتة كانت بين أهم العلامات المميزة للفن المصري القديم. وكانت للتمثال مهمة أساسية في المقبرة في العصور الفرعونية؛ وهي تمكين الروح من التعرف على ملامح الشخص المتوفى، فلا تخطئه في الدار الآخرة، حسب المعتقدات الفرعونية القديمة. ثم ازدهر فن النحت في الدولة القديمة والوسطى والحديثة، وأثمر عدداً من التماثيل بأنواع مختلفة.
واستخدم المصريون حجم التمثال للتعبير عن الوضع الاجتماعي, فحجم تمثال الفرعون كان يفوق الحجم الطبيعي، ويزن أحياناً عدة أطنان. وكانت تماثيل الكتبة وموظفي البلاط بالحجم الطبيعي تقريباً. أما تماثيل الخدم والعمال فكانت - رغم دقتها العالية- أصغر حجماً؛ إذ لايزيد ارتفاعها في العادة عن 50 سنتيمتراً. وقد أظهرت تلك التماثيل الخادم في أوضاع العمل المختلفة. هذا إضافة إلى تماثيل الشوابتي بالغة الصغر التي لا يزيد ارتفاعها عن بضعة سنتيمترات. وهذه يستدعيها صاحبها، في الدار الآخرة، لكي تؤدي عنه العمل الصعب الذى لابد وأن يقوم به. وكان هناك 365 من هذه التماثيل الصغيرة (الأوشابتى)؛ أي بعدد أيام السنة.
والمسلات من المعالم الرئيسة المميزة للنحت المصري، وقد اعتمدت في صناعتها على تقنيات معمارية عالية؛ إذ كانت المسلة تنحت من كتلة صخرية واحدة. وكانت المسلات من أبرز معالم العمارة القديمة، وتقام عادة على جانبي مداخل المعابد. وكان للأعمدة وضع خاص في العصرين الفرعوني واليوناني. ويتكون العمود، سواء كان رباعي الشكل أو مستديراً، من ثلاثة أجزاء: قاعدة، وبدن، وتاج. واتخذت التيجان أشكالاً شبيهة بالزهور وأوراق النبات؛ مثل النخيل ونبات اللوتس. ومن الأشكال الشائعة أيضاً، شكل السلة المجدولة, بأشكال حليات نباتية وعناقيد عنب في داخلها.
ورغم كل هذا يدلنا الدكتور شاكر عبد الحميد الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، والمتخصص في علم الجمال، في كتابه (التفضيل الجمالي)، الصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت؛ أن فنون الرسم والتصوير استأثرت بالقدر الأكبر من الدراسات السيكولوجية الخاصة بموضوع التفضيل الجمالي. وقد كان الاهتمام بالفنون الأخرى كالنحت ضعيفاً وشاحباً. وهذا أيضاً، ما تؤكده شهادات الفنانين المصريين الثلاث الذين أدلوا بشهاداتهم حول فن النحت في مصر، فضلاً عن الحديث عن تجاربهم النحتية.
خامات نبيلة وأخرى غير نبيلة
الفنان الكبير جميل شفيق المولود فى طنطا–مصر عام 1938، والحاصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة القاهرة العام 1962، والذى عمل رساماً صحفياً قبل أن يلتحق بالدراسة، وعمل خبيراً فنياً بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، أقام معارض شخصية عديدة منذ العام 1989 وحتى الآن، بالإضافة إلى مشاركته فى المعارض المحلية والدولية وتمثيل مصر بالخارج، وله مقتنيات بمتحف الفن المصرى الحديث والبنك الأهلي المصرى ومقتنيات خاصة بمصر والخارج؛ أكد أن النحت في مصر له شأن كبير، بفضل ما يفعله آدم حنين في سمبوزيوم أسوان، فمصر بها العديد من النحاتين العظام، والشباب المتميز. وحول الأحداث الأخيرة التي شهدتها مصر، من تغطية للتماثيل الفرعونية واعتبارها وثناً، يجب كسره، قال شفيق: «لا يجب أن يسيطر علينا الخوف من هذه الأفعال، لابد من الجرأة على هذه الدعوات وعدم الامتثال لها». وأضاف: «إن السبب الرئيس في ذلك هو غياب المناخ الذى يشجع على الإبداع فى المدرسة. فعندما كنت أدرس فى مدرسة الأحمدية فى طنطا كان لدينا فريق تمثيل وغرفة موسيقى وأخرى للرسم, وكانت إدارة المدرسة تتبنى المواهب وكل عام نقيم معرضاً على مستوى الدولة، وتخرج في هذه المدرسة فؤاد تاج أستاذ كلية الفنون والفنان الراحل حجازى فنان الكاريكاتير والفنان الوشاحى. فطريقة التعليم أفقدت الطالب القدرة على الإبداع والابتكار، فليس بالضرورة أن يكون رساماً أو موسيقاراً, ولكن أن يكون إنساناً حساساً لدية مشاعر مرهفة يتذوق الجمال ويرفض القبح، وكذلك تغطية الإعلام للفن التشكيلى محدودة».
الفنان جميل شفيق معروف عنه محاوراته مع الطبيعة من خلال طرح الخشب في البحر، وبعد أن تتفاعل معه أسماك البحر والقواقع يضيف شفيق لمساته الخاصة، وهي خامة ربما يستخدمها فقط جميل شفيق.
وحول استخدام مصطلح خامات نبيلة وأخرى غير نبيلة يوضح جميل شفيق، معتمداً على بعض الكتب التي تستعرض هذه الخامات: «هناك خامات كثيرة للنحت، منها التيراكوتا (Terra Cotta) التي تعتبر من أقدم الخامات المستخدمة في النحت في عصور ما قبل التاريخ، كما استخدمها قدماء المصريين والإغريق والصينيين. ويتم فيها تجهيز الطينة الأساسية داخل إطار معدني ثم تحرق بطريقة لا تكلف كثيراً، وتتميز بسهولة الاستخدام وقوة تحملها, حيث لا تتعرض للتلف أو التآكل أو التشقق إلا أنه يمكن كسرها لأي تصادم يقع عليها. ويمكن استعمال الطينات ذات الألوان المختلفة أو بإضافة طبقات من الطلاء الزجاجي حيث تثبت على سطح التمثال أثناء عملية الحرق الثانية في الفرن المعد لذلك أو في الفرن العادي. وهناك البرونز والمعادن الأخرى، وتم استخدام هذه المادة بعد استخدام الطين لفترة طويلة من الزمن لكن تاريخه يرجع للوراء حتى العصر البرونزي نفسه من 3000-1000 ق . م, وفيه يستطيع المثال عمل نموذجه الأصلي من الطين ثم صبه بمعدن البرونز دون أية صعوبة, كما يمكن إعادة الصب مرات متعددة. والميزة الكبرى في ذلك المعدن هو قدرته على التماسك وعلى الثني وعدم التشقق أو الكسر ويظهر تطبيق هذه الخامة بوضوح في عمل التماثيل التي بها انحناءات أو حركة. ومن الخامات التي تم استخدامها قديماً النحاس الأصفر، حيث كان يطرق إلى ألواح معدنية, أما اليوم فهو يستخدم في أعمال السباكة. ويتميز بدقة لمعان سطحه إلا أنه ينطفئ إذا لم يحفظ بطريقة جيدة.
أما الخشب فله عيوب ومزايا، إلا أن عيوبه تطغى على مزاياه فهو مادة تتآكل نسبياً، وعرضة للتشقق نتيجة لتغيير درجة الحرارة، ويتقوس من الرطوبة، ويتفتت نتيجة هجمات حشرة السوس. كما أن هناك بعض أنواع من الأخشاب تفرض طريقة لنشرها وتحد من حرية الفنان لطبيعة أليافها.
النحت المتمرد
الفنان جمال عبد الناصر، نحات وعضو نقابة الفنانين التشكيليين وجمعية محبي محمود مختار، في بداية حديثه أكد: «لست ناقداً في فن النحت؛ ولكني سأتحدث كممارس لهذا الفن، بعد أن جذبني النحت الكلاسيكي، رغم أني في بداية طفولتي كنت محباً للرسم، ولكن حينما رأيت النحت شدني أكثر، ووجدت نفسي فيه».
وأضاف عبد الناصر: «ربما تمسكت بالنحت، بسبب والدي الذي كان يعزف على الكمان. فهو فنان، وأنت لا تعرف لماذا أصبحت فناناً في هذا المجال. والفنان الحقيقي يدلك على ما تريد. فأنا لا أنام إلا إذا أخرجت ما بداخلي، حيث أرسم التمثال بشكل مبدئي، حتى يهدأ ما بداخلي. وهذا متحقق في كل أنواع الفنون، وليس في النحت فقط».
ويكمل عبد الناصر: «أحببت مايكل إنجلو واعتبرته هو النحات الأعظم، ولما كبرت تولعت بالفنون الحديثة. وكان الفضل للفنان الكبير عبد الهادي الوشاحي، فهو الذي علمني النحت، ولولاه لم أكن تعلمته في الكلية. وللأسف أساتذة النحت لا يريدون تعليم أحد، أو مساعدة فنان ما. وهؤلاء الأساتذة كانوا مسيطرين على النحت في مصر، وكان هناك معرض ضخم، أصبح الآن مركزاً لأحد البنوك، ولكن الفن المعاصر جذب الشباب الخريجين، ولم يستطيعوا مجاراة هذه المدارس الجديدة, ولا يوجد إقبال؛ ربما لأن أيديهم تتسخ من الطين!. رغم أن الطين مفيد للجسم، والنحت صعب مقارنة ببقية الفنون، فالتصوير أسهل في التقنية. ظروف مصر لا تحبذ دخول كلية الفنون».
وعن سبب انحسار الشهرة في فنانين معينين يقول عبدالناصر: «هذا صحيح، ولكن مثلاً جمال السجيني أخذ شهرة في النحت، كما صلاح طاهر في التصوير، ولكن دخل الزيف في عمل الإعلام الذي يركز على فناني السينما ولاعبي كرة القدم، ولا يهتم بالفن الحقيقي». ويضيف عبدالناصر: «أنا شخصياً متمرد، وتمردت على الطريقة التقليدية وأجرب، وعملت تماثيل دون المستوى. ولم أكن أستعمل البرونز في بدايات عملي، كنت أشتغل على الورق أو الأسمنت. كما كانت التماثيل كلها ملونة، كنت ألون الشغل. وبالطبع كان من الصعب أن يستوعب الفكر المصري خامات مثل هذه».
ونوه الفنان عبد الناصر إلى أن العصر الحديث أدخل على الخزف مجسمات، والبعض يعتبره نحتاً؛ وهذا غير صحيح مئة في المئة. كما أن البعض يريد أن يدخل الفيديو في النحت، وهذا تهريج لا يقبل. وأشار إلى أن هذا نابع من ثقافة أوروبا، ولكن هنا نقلده كعميان. ولابد أن ننتبه أن الغرب يريد القضاء على الفن في الشرق وخاصة الفن التشكيلي، وهذا عن طريق استخدام الفيديو وغيره في الفن التشكيلي، عن طريق فنانين شباب يحصلون على تمويل وجوائز من الغرب حتى ينسون الفنون الأصلية. وبالطبع الغرب يريد القضاء على كل ما هو فن قديم كالنحت بدعوى الحداثة، حتى ولو كان فيه تجريب.
حدود النحت
أما الفنان ناجي فريد، وهو نحات كبير، عضو اللجنة العليا لسمبوزيوم أسوان للنحت، أشار قبل الحديث معه إلى خطر إلغاء معرض سمبوزيوم أسوان الذي يعد من أهم الفاعليات في النحت، بل هو الوحيد الذي يعد مدرسة مفتوحة للنحت، وهو متحف كبير لا يوجد له مثيل في أمريكا أو أوروبا، يوجد فقط في كوريا. وهو حدوتة مصرية.
أثناء ثورة يناير كان السمبوزيوم مفتوحاً، أما الآن فنحن نخاف من إقامته، حيث الدعوات التي تحرم النحث والتماثيل من قبل بعض التيارات الدينية السلفية التي ترى أن التماثيل وثنية.
وقال فريد: «مصر ملوك النحت، ولا توجد أي واقعة في العالم أن أي شخص يعبد تمثالاً. والنحت هيكل خارجي بدون روح. والدعوات ضد النحت إهدار للجمال. يجب تشجيع الفن، وعدم تحويل الناس إلى أشياء. ويجب الانتباه إلى أن كل ما حولنا هو نحت من صناعة الأواني والسيارات والكراسي. الإنسان بطبعه يميل للفنون؛ لأنها تعبر عن ذاته. والدين والفن يهذبان الإنسان، وبدونهما تقل إنسانية الإنسان، ويصبح شخصاً متبلداً».
وعن حدود الفن والحرية فيه قال ناجي: «الحدود مسؤولية. وبالطبع أنا لو حجمت إبداعي لن يحدث التطور، وفي النهاية لابد من إطلاق الخيال بدون حدود، والخيال في مجمله وجهات نظر».
وأضاف عن اتجاهات النحت في مصر: «كل اتجاهات النحت في مصر، كلاسيك وتجريد ونحت المفاهيم؛ الكل موجود، ولا يوجد اتجاه في العالم غير ممثل في مصر. وبالطبع آدم حنين الذي أراد تعليم وتجميع شباب النحاتين، وهو محمل بخبرات وثقافات عميقة، واختلاطه بالشباب؛ جعلنا نجرب النحت المصري القديم. والسمبوزيوم قائم بالأساس على الشباب مع وجود الفنانين الكبار لتبادل الخبرات. وصياغة الحجر باحترامه. ومن وجهة نظري يوجد نحاتون موهوبون ولهم خصوصية، الخامة لا تصنع فناناً جيداً، وإنما هو الذي يطوع الخامة لرؤيته الفنية. والمصريون هم ملوك نحت الحجر، وهذا مرتبط بحضارتنا. والمصريون يتميزون بأسلوب البساطة مع العمق متأثرين بالفن الفرعوني. ولا يوجد سمبوزيوم في العالم لم يشارك فيه فنان مصري. النحت المصري له وجود عالمي، المشكلة في الداخل, فالإقبال على كليات الفنون قليل جداً، كما أن أساتذة النحت دون المستوى. والحل في إكاديميات خاصة للفنون. الأساتذة ضعاف فنياً، ولا يقدمون أي جديد أو أي جيد. ونسبة النحت في صالون الشباب المقام حالياً مثلاً قليل جداً.