القلم.. هذه الأداة الصغيرة العجيبة الغريبة التي تصنع المعرفة والثقافة، وبها تكتب العشرات بل الألوف والملايين من الدواوين الشعرية والراويات ومجلدات ضخمة عن تاريخ الحضارة البشرية والملاحم الأسطورية. إن إنجازات القلم الكبيرة والرائعة تدفعنا لمعرفة ما قيل عنه في التراث العربي وفي الكتابات المعاصرة.
روت كتب السنة والتفسير عدداً كبيراً من الأحاديث التي تبين أن القلم هو أول مخلوقات الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول شيء خلقه الله القلم، ثم خلق النون وهي الدواة، ثم قال له اكتب، قال وما أكتب؟ قال اكتب ما يكون، أو ما هو كائن من عمل أو رزق أو أثر أو أجل، فكتب ذلك إلى يوم القيامة». رواه ابن عساكر.
والقلم ما يكتب به، قلم العود يقلمه قلماً: قطع منه شيئاً. ويقال قلم القلم ونحوه: براه وقلم الظفر: قص ما زاد منه، ومنه القلم لأنه يقطع شيئاً من طرفه ليسوى.
وقد ورد ذكر القلم في القرآن الكريم أربع مرات حيث جاء مرتين بصيغة المفرد، ومرتين بصيغة الجمع، فورد بصيغة المفرد في قوله تعالى: (ن، والقلم وما يسطرون) (القلم:1-2)، وقوله: (اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم) (العلق: 3-4). كما ورد بصيغة الجمع في قوله تعالى: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) (آل عمران: 44)، وفي قوله تعالى: (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) (لقمان: 27).
وتشير كثير من الدراسات إلى أن العربي في العصر الجاهلي كان يعرف الكتابة، وأنه كثيراً ما استخدمها خاصة في الأغراض السياسية والتجارية، فلقد كان المجتمع الجاهلي مجتمعاً آخذاً ببعض أسباب الحضارة، ويستدل على ذلك بكثرة ألفاظ اللغة الدالة على القلم والورق مثل: اليراع والأنبوبة والقرطاس والطرس والرق والصحيفة. ولقد استخدم العرب القلم في الجاهلية عندما كانت الحاجة تلجئهم إلى أن يسجلوا بعض شؤونهم في وقت لا يكون بحوزتهم القلم المبري أو لا تكون الدواة مليئة بالمداد، كانوا يستخدمون بدلاً منه مواد طباشيرية أو فحمية تترك أثراً على ما يكتب عليه، بل إنهم استخدموا أدوات حادة مثل السكين لنقش الكتابة على المواد الصلبة، والشعر الجاهلي لم يحفظ عن طريق الرواية والسماع فقط، وإنما كانت الوسيلة الأولى لحفظه القلم والكتابة ويستدل على ذلك بكثرة ورود كلمتي الكتابة والقلم في ألفاظ الشعر الجاهلي أو في بعض تشبيهاته وصوره، فالمرقش الأكبر يقول مشبهاً بقايا أطلال منزل الحبيبة ببقايا آثار سطور خطها قلم:
الدار قفر والرسوم كما
رقش في ظهر الأديم قلم
وفي وصف القلم يقول الجاحظ: «ليس في الأرض أمة بها طرق (قوة) أو لها مسكة (عقل) ولا جيل لهم قبض إلا وهم خط فأما أصحاب الملك والمملكة والسلطان والجباية والديانة والعبادة فهناك الكتاب المتقن والحساب المحكم وما يصل بين الكتاب والحساب هو القلم»، وعن القلم يقول عبدالحميد الكاتب: «القلم شجرة ثمرتها الألفاظ والفكر بحر لؤلؤه الحكمة»، وقال ابن المقفع: «القلم بريد القلب أنف الضمير إذا رعف (تحرك) أعلن أسراره وأبان آثاره»، وقال ابن أبي الداؤود «القلم سفير العقل ورسوله الأنبل، ولسانه الأطول وترجمانه الأفضل».
وفي الشعر يقول أبو تمام:
لك القلم الأعلى الذي بشباته
تصاب من الأمر الكلى والمفاصل
له الحلوات اللائي لولا نجوها
لما احتفلت للملك تلك المحافل
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه
وأرى الجنى اشتارته أيد عواسل
له ريقة طل ولكن وقعها
بآثاره في الشرق والغرب وابل
وأشهر أبيات الفخر بالنفس بذكر القلم قول المتنبي:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
ويقول الحسين بن يحيى راثياً قلماً انكسر:
ماعيب طولاً ولم يعب قصراً
عري من دقة ومن عظم
كان إذا ما تضايقت سبل
اللفظ كفاني مخارج القلم
لا حصر القول عند خطبته
وليس في قول بمتهم
وفي الشعر المعاصر يقول إيليا أبو ماضي في قصيدته (أيها القلم):
ماذا جنيت عليك أيها القلم
والله ما فيك إلا النصح والحكم
إني ليحزنني أن يسجنوا وهم
لولاك في الأرض لم تثبت لهم قدم
وأيضاً قال الشاعر أيمن الركراكي:
أحن إليك يا قلمي
حنين الجرح للألم
حنين التربة العطشى
لغيث وابل الديم
ويصدح الشاعر السوري جاك صبري شماس عن اليراع (أي القلم)، فيقول في قصيدته التي عنونها باليراع:
وشح بيانك بالمداد الأخضر
وازرع نجوماً في دياجي الأعصر
وانشر فضاء الحب في مهج الندى
وبشائراً جذلى تمور ككوثر
تروي حكايا الأس ترسم صورة
وتلون الدنيا بأجمل منظر
وتخط في سفر البيان معالماً
وتفيئ في نضج البديع المثمر
وهكذا نجد أن للقلم سحره وبيانه وألقه في تسطير أروع الأبيات وأجمل الروايات وأبدع المسرحيات وسجله سجل خالد عبر العصور والدهور.