لم يعد الممثلون يختالون على خشبة المسرح بحكاياتهم القديمة ذات الفخامة في القول والفعل، ولم يعد الحوار يجلجل بفصاحته في آذان المتفرجين. بل صار حديثاً عادياً قد يعنُف في أزمات الصراع لكنه يظل ضمن دائرة الحديث الواقعي العادي. إذ لم يكتف المخرجون بإنزال مكانة الحوار إلى المرتبة الثانية أو الثالثة، بل صاروا يكيدون الكتابَ كيداً مؤلماً بحذف أطوالٍ من نصوصهم. ثم زادوهم كيداً أشدَّ في أواخر القرن العشرين بأن قدموا عروضاً دون كلام.
من ذلك نرى أن ولادة المخرج في بدايات القرن العشرين، اعتبرت من أهم الأسباب التي أزاحت الكاتب عن المكانة الأولى في العرض المسرحي، وعملت في الوقت نفسه على إعطاء النص المكانةَ الثانية في العرض. وأخذ الحوار يفقد أهميته رغم امتلاء المسرح به. وأتى فقدانُه لأهميته من أنه لم يعد التعبير الأقوى أو الوحيد عن التواصل الفعلي بين الشخصيات في صراعها أو في توافقها. وعندما ازدادت براعة المخرجين والممثلين، صار الفعل يحلُّ محل الحوار في التعبير عن الدلالة النفسية والعاطفية. فصار الحوار مكملاً للفعل وليس بديلاً عنه. ولكي يستعيد الحوار مكانته في العرض أخذ يتخلى عن بلاغته وفصاحته. وقد بدأت هذه العملية مع نشأة الواقعية التي تحاول أن تكون أفعالها وإيماءاتُها مستمدة من حركة الناس اليومية، خصوصاً وأن موضوعات المسرحيات كانت معاصرة وليست تاريخية. فدفعه ذلك إلى أن تصبح لغةُ الحياة اليومية مادة الحوار.
ولكن كتّاب المسرح، ومنظريه المؤصلين، أدركوا أهمية استخدام اللغة في الحوار المسرحي، بما تملكه من خصوصية متميزة تختلف فيها عن استخداماتها في باقي الفنون التعبيرية، لذا كانت مصدر إشكال وبحث في تركيزها، وتكثيفها، وشحنها، وقد خضع الحوار المسرحي بين أيديهم إلى الغربلة والتدقيق والتمحيص، فاقتضى لغة ذات طابع مركّز، ومعبّرة تعبيراً مباشراً، لا استطراد فيه، ولا غموض، لأن المتفرج لا يملك الفرصة لملاحقة المعاني، وتميّزت العبارة المسرحية بالاختزال والاختصار، بشكل يفسح المجال للممثل أن يطلقها بعفوية وراحة، فكانت سليمة النطق تحمل جرساً رناناً يصيب السمع فيحرك الأفئدة، ويثير المشاعر بما يطرحه من أفكار، وبما يقدمه من قضايا، من خلال انسجامها مع الموقف المسرحي كي تتحقق الوظيفة الأهم للمسرح، وهي وظيفة الاتصال.
إن الحديث الذي تتبادله الشخصيات، فيكشف جوهرها ويدفع الفعل إلى الأمام في العرض المسرحي.. يعرف بالحوار المسرحي، وهو جزء من مكونين رئيسيين للنص، مختلفين لكن غير قابلين للانفصال هما: الحوار والتلميحات الحركية.. والعلاقة النصية بين الحوار والتلميحات الحركية، تتغير بتغير المراحل التاريخية التي يمر بها المسرح. فهي تكون أحياناً غائبة أو شبه منعدمة ويكون بإمكانها أحياناً أخرى أن تحتل مساحة شاسعة داخل النص. كما أن الاختلاف اللغوي الأساسي بين الحوار والتلميحات الحركية يمس الفاعل في عملية الإخبار، أي يتعلق بمسألة: من المتكلم؟ في الحوار، إنه ذلك الكائن الورقي الذي نسميه الشخصية -المختلفة عن المؤلف-. أما في التلميحات الحركية فإن المؤلف نفسه هو الذي: يسمي الشخصيات ويخصص لكل واحد حيزاً يتكلم فيه أو جزءاً من الخطاب. وهو الذي يشير إلى حركات وأفعال الشخوص في استقلال عن الخطاب كله. هذا الاختلاف الأساسي، يتيح رؤية كيف أن المؤلف لا يكلم نفسه في المسرح، بل يكتب لكي يتكلم واحد آخر في مكانه، وليس فقط واحد آخر، بل جماعة من الأفراد، عبر سلسلة من الكلمات المتبادلة. فالحوار شكل من أشكال الخطاب في المسرح يشبه المحادثة في الحياة العادية لكنه يختلف عنها جوهرياً، فهو اقتصادي ودلاليّ دائماً لا مجال للاعتباطية فيه، ووظيفته الحقيقية هي وظيفة إبلاغية تقوم على توصيل المعلومات إلى المتفرج عبر الشخصيات. وأهم ما يجب أن يتصف به الحوار المسرحي مما يؤهله لدفع النص إلى الأمام:
التركيز والإيجاز: حيث أن العمل المسرحي يحدد بمكانٍ وزمان معينين، فهو عمل مقيّد، تحكمه الضرورة الفنية، لارتباطه المباشر مع المتلقي، ولارتباطه بالأداء والإشارات التي تفصح عن الطبائع واللمحة التي توضح المواقف! فالكاتب المسرحي يمكن أن يصيب الهدف بكلمة، ويمكن أن يحدد سمات الشخصية في إجابة، ويحيط المعنى في عبارة، وهذا ما جعل (توفيق الحكيم) يشبهه بالشاعر الذي يمكن أن يضيء الكون بشطر بيت من الشعر. يقول بيتر بروك: «إن العلاقة في المسرح، ما بين جملة وجملة أخرى ليست بعلاقة طبيعية مثلما هي في الحياة، بل إن الأمر يتعلق بعلاقة شبه معمارية تقريباً ما بين قوة وأخرى».
الآنية: تكاد تجمع الآراء على أن الحوار الدرامي هو من أهم العناصر التي يقوم عليها البناء المسرحي، لأنه الوسيلة التعبيرية التي يمكن أن يصل عن طريقها المضمون المطروح، وإن كانت تسانده في نقل الفكرة بقية العناصر الأخرى من مواقف وشخصيات.. إلا أن هذه العناصر هي عناصر تشكيلية أكثر منها تعبيرية. فالحوار يسهم في تحريك الأحداث، وامتدادها، وفي تحديد الشخصية، وتنميتها، من خلال علاقتها بالحدث وعلاقتها بالشخصيات المسرحية الأخرى إضافة إلى أنه يسهم في عرض القضايا، ومناقشة الأفكار، وتحديد المواقف وهو في ذلك كلّه يقدم القصة المسرحية حيّة نابضة بالحركة تدل على اللحظة الآنية ، فالحوار هو الحاضر هو ما يحدث في اللحظة التي نحن فيها.. حاضر أبدي لا يمكن أن يكون ماضياً أبداً ومهمته لا أن يروي أحداثاً حدثت في الماضي، وإنما يعبّر عن الماضي بلغة الحاضر، فهو يصور أشخاصاً يعيشون بيننا اللحظة والآن.
الانسجام مع الموقف: يتوقف اختيار نوع الحوار تبعاً لنوع المسرحية، إن كانت مأساة أو ملهاة، فالحوار يسهم في خلق الجو المسرحي، أو تقرير المزاج النفسي للشخصية المسرحية، وقد شبهه توفيق الحكيم بالريشة في يد المصور وهي المنوط بها الرسم، والتلوين والتكوين، وكل ما يوضح على اللوحة من فن!. فالموقف هو الذي يملي طبيعة الحوار، ويتلون الحوار بلون الموقف المسرحي.
لذا لابد للحوار أن يتسم بالحيوية، وذلك من خلال قدرته على إيضاح ما يدور في نفس الشخصية وفكرها، وأن يتلون بما يتناسب مع طبيعة الموقف والشخصية مما يعطي تحريكاً لجو المسرحية، بإيقاعات مختلفة، فلقد يمضي الحوار على نحو عادي حتى يبلغ الموقف حد التأزم فيتوتر الحوار ويزيد إيقاعه ويصبح -في المسرحية النثرية- أقرب إلى الشعر، وقد تتطور الشخصية خلال نمو الحدث المسرحي فيتلون الحوار حسبما طرأ عليها من تغيير كما يتلون حسب اختلاف الشخصيات نفسها في المستوى العاطفي والفكري والاجتماعي.
ويعاني الكتاب من مشكلة مقلقة في تصوير الشخصيات بالحوار. وهي أن الإنسان في العادة لا يكشف عن نفسه بالكلام. بل يخفي عواطفه ونواياه الشريرةَ والخيِّرة. فلا أحد يقول عن نفسه إنه جبان. وإذا قال إنه شجاع اتهمناه بالادعاء والتفاخر. والذي ينوي سرقةَ مصرف أو قتلَ شخص لا يعلن ذلك. والمتفِقُ مع حبيبته على الهرب لا يفشي سره لأحد. ومع ذلك فإن على الكاتب أن يجعل الشخصية تُفصِح عن نفسها بشكل طبيعي. وهنا تتجلى مهارة الكاتب وطول باعه. كأن يضع الشخصية في موقف المضطر للاعتراف والبوح، أو في حالة انفعالية حادة تسمح لها بالإفضاء عن سريرتها، أو يقابلها مع صديق يتبادل معه المصارحة والمسارَّة. وقد يجعلها تكشف عن نفسها وحدها عن طريق المونولوج.
وكان الكتاب القدامى يلجؤون إلى حيلة الحوار الجانبي أو النجوى. وهي أن يتكلم الشخص مع نفسه عن أمر من الأمور دون أن يسمعه أحد. وقد كانت هذه الحيلة مقبولة فيما مضى، لكنها تبدو اليوم سخيفة ممجوجة. حتى المونولوج يتقبله قراء وجمهور اليوم بشيء من الضيق مهما بلغ من القوة والضرورة. فالأصل اليوم هو الاشتباكُ السريع في الحوار المؤدي إلى الصراع والإسراع في تأزيم الحبكة.
الواقعية: لقد أدرك المسرحيون العرب أن لغة المسرح ليست لغة الحياة العادية، إذ إن لغة المسرح تعتمد على الحوار المكثف، المختصر، الذي هو أخص ما يعتمد عليه الكاتب المسرحي في التعبير عن أمرٍ ما تجري أحداثه في الحياة الواقعية، ذلك أن الكاتب المسرحي مقيّد بزمنٍ محدد، لذا لابد له من الاقتصاد في استخدام الكلام، والابتعاد عن الحشو من الألفاظ المستخدمة في الحياة العادية، وكما أن الكاتب المسرحي ملزم باختيار الأحداث، فهو ملزم أيضاً باختيار الحوار، لذا فإن الحوار يقوم على الذوق والمهارة الفنية (بمعنى أنه الثمرة الناضجة التي يقدّمها إلينا الكاتب الفنان بعد طول التروي). والمراد بواقعية الحوار المسرحي، هو أن يلتزم الكاتب حدود الشخصية المرسومة فلا ينطقها إلا بما يتلاءم معها سواء أوتيت القدرة أو لم تؤت القدرة على الإيضاح عن ذاتها فالواقعية في الحوار المسرحي ليست في نقل الواقع، وإنما بتصوير الشخصيات، وإدراكها لمواقعها الحقيقية.
إن أمام الكاتب مجموعة من المهام الصعبة التي يجب أن تتحقق كلها دفعة واحدة حتى ترتقي مسرحيته إلى مرتبة الأدب أولاً، وأن توحي بالواقع ثانياً، وأن تنسلَّ إلى قلب وعقل المتلقي بصفاء وسلاسة بحيث تردم الهوة المخيفة بين لغة الحياة اليومية التي يتعامل معها المتلقي في حياته العادية، وبين لغة المسرح التي يجب أن توحي بلغة الحياة اليومية ثالثاً. وتلك هي المرتبة الرفيعة التي، إن تحققت للنصوص المسرحية، استطاعت أن تحتل مكانتها على المسرح من جديد.
وللكاتب أن ينتقي الطريقة التي يشاء لإنجاز هذه المهام مجتمعة. ولطالما تعددت أساليب الكتابة بتعدد الكتاب. لكن ثمة قواعد يستهدي بها الكاتب في صياغة الحوار المسرحي نذكر منها -إضافة إلى ما قدمناه عن خصائص الحوار- قاعدة ناصعة نعدها مفتاحاً لكل جماليات الحوار وهي الإيصال المباشر للمعاني لأن النص المسرحي يُسمَع ولا يُقرَأ. والقارئ يستطيع العودة إلى الجملة إن غاب عنه معناها أو صَعُبَ وصولُه إليه. أما المستمع فيجب أن يصل إليه المعنى كاملاً بكل ما يتضمنه من مواقف نفسية واجتماعية ومشاركة في سبك الحكاية. ولذلك لابد من أن تكون الجملة قادرة على الوصول السريع إلى القارئ. وسبيل الكاتب إلى هذا الوصول السريع أن تكون جُمَلُه معتدلة الطول، وأن يكون تنسيق أركانها، الفعل والفاعل والمفعول به والحال... إلخ، مُعيناً على إيصال المعنى المباشر.
ولا يعني ذلك أن تأتي هذه الأركان بترتيبها العادي. فإن من مظاهر الفصاحة في العربية أن يتلاعب الكاتب بترتيب هذه الأركان. فقد يجعل المفعول به سابقاً على الفعل أو على الفعل والفاعل. وقد يأتي الحال سابقاً على صاحب الحال. وكم بلغ الأدباء مراتب عالية في حسن السبك وقوة التعبير بمثل هذا التلاعب بأركان الجملة. والكاتب المسرحي مضطر إلى مثل هذا التلاعب حتى يحقق الجمالية التي تُعدُّ إحدى وظائف الحوار. ولكن عليه، في الوقت نفسه، أن يظل حواره قادراً على الوصول السريع، وأن يحقق جميع المهام الملقاة عليه. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الكاتب لن يملك هذه القدرة على صياغة حواره بهذا الشكل إلا إذا كان مالكاً لناصية اللغة العربية في قواعدها وبلاغتها وأساليب الفصاحة العربية على امتداد عصورها. ولن يملك هذه الناصية إلا إذا تعمَّق في الآثار الأدبية البليغة القديمة والحديثة. وهذا يعني أن التعمق في التراث الأدبي القديم هو سبيل الكاتب للوصول إلى الحداثة المتمكنة. يقول بيتر بروك: «بإمكاننا أن نلاحظ أن في أيّ نص من النصوص يوجد هنالك بناء، ولا يوجد أيّ شاعر حقيقي لا يفكر بأولوية هذا البناء، وعلى الرغم من أنه قد عزز في داخله بعض القوانين، فلديه الدافع القوي جداً الذي يدفعه لأن يزرع الحياة في بعض الأشياء. وفي أثناء بحثه عن هذا الذي يجعل هذه العناصر حية، يلتقي بالقوانين وحين ذاك يندمج هذا في بنية الكلمات. وبمجرد ما يطبع، يوجد الشكل الذي هو كتاب».