(زبيدة) أمة العزيز بنت جعفر بن أبي المنصور زوجة الخليفة هارون الرشيد وأم ولده الأمين.. هذه المرأة يجب أن يكون اسمها محفوراً في الذاكرة.. كيف لا وهي صاحبة العين المشهورة عبر تقادم الأيام والسنين؛ والمسماة نسبة لها (عين زبيدة) والتي يسقى منها الحجاج والمعتمرون والزائرون لبيت الله الحرام وذلك عندما وقفت بنفسها على معاناتهم وما يلاقونه من تعب ومشقة جراء الحصول على المياه الصالحة للشرب وذلك أثناء حجها –رحمها الله تعالى- عام 174هـ.
يعد مشروع عين زبيدة أول مشروع مائي في التاريخ بالرغم من وجود العديد من العيون والبرك التي كانت تسقي منها مكة المكرمة آنذاك وتهدمت بفعل الأمطار والسيول والإهمال وعدم الصيانة.
ولدت زبيدة عام 145هـ ونشأت وترعرعت في بيت والدها أبي جعفر المنصور، وقد غلب عليها لقب زبيدة نظراً لأن جدها المنصور كان يحبها حباً شديداً وكان كثيراً ما يلاعبها في صغرها وهو يقول زبدة يازبيدة وذلك لبياضها.. قال ابن تغري بردي في وصفها «أعظم نساء عصرها ديناً وأصلاً وجمالاً وصيانة ومعروفاً»
لقد كانت زبيدة سيدة جليلة سخية لها فضل في الحضارة والعمران، ومن صفاتها أنها كانت ذات عقل وفصاحة ورأي وبلاغة.
مشروع زبيدة العظيم
ويهمنا هنا ما قامت به من أعمال جليلة تخص هذه العين المباركة التي فاضت بمياهها العذبة وسقى منها كل من مر بها حاجاً أو معتمراً أو زائراً. ومن نباهة زبيدة أنها أمرت بحفر قنوات مائية تتصل بمساقط الأمطار والسيول؛ لذا قامت بشراء جميع الأراضي في الوادي وأبطلت المزارع والنخيل وأمرت بأن تشق للمياه قناة في الجبال مع جعلها فتحات لأقنية فرعية أقامتها في المواضع التي تكون مجمعاً للسيول، ومنها عين الزعفران وعين البرود ومشاش وميمون والطارقي.. وغيرها. وجميع المياه المتجمعة في هذه العيون تصب في العين الرئيسة، وقد تتفاوت كمية المياه من سنة إلى أخرى حسب كمية الأمطار التي تسقط بمشيئة الله تعالى، وهذه العين تمتد من وادي نعمان إلى عرفة حيث أمرت زبيدة بجر مياه هذا الوادي الذي تنبع مياهه من ذيل جبل كرا بالطائف في قناة إلى موضع يقال له الأوجر ثم تدار القناة على جبل الرحمة مع جعل فروع لها إلى البرك التي في أرض عرفة ليشرب منها الحجاج يوم عرفة، وقد هيأت زبيدة الأماكن الخاصة لذلك على شكل حنفيات حجرية ذات أشكال هندسية غاية في الروعة والجمال كي يتسنى للشارب أن يروي ظمأه بكل يسر وسهولة، ولم يفت على زبيدة أن تأمر بوضع مجار للقنوات الملتفة بجبل الرحمة لتجميع مياه الوضوء ومن ثم صرفها إلى المزارع المجاورة الموجودة حينها بجانب الجبل ثم أمرت أن تمتد القناة من أرض عرفة إلى خلف الجبل لمنطقة تسمى (المظلمة)، وتخترق هذه القنوات خرزات شبيهة بغرف التفتيش بعضها ظاهر على سطح الأرض ويسمى بالخرزات الظاهرة وأخرى مدفونة حدد مكانها دون أن تظهر على سطح الأرض. وحيث أن القناة تمر بمجرى السيول فقد بني سد لحجز تلك السيول والتحكم في تدفقها لسقيا المزارع الواقعة في أسفله (لا تزال أجزاء من هذا السد باقية آثاره حتى يومنا هذا) ومن ثم تصل المياه إلى المزدلفة ثم منى ثم تصب في بئر عظيمة مرصوفة بأحجار كبيرة جداً تسمى (بئر زبيدة) ثم يمتد هذا المجرى إلى مكة المكرمة مروراً بمنطقة العزيزية ثم الششة مروراً بالمعابدة، وتستمر هذه القنوات بالاتجاه نحو مكة المكرمة وفي طريق العودة تأخذ مسارها مدفونة على أعماق قريبة من سطح الأرض حتى تصب في بئر مطوية بأحجار كبيرة جداً تسمى أيضاً (بئر زبيدة)، وفي منطقة تسمى اليوم (محبس الجن) والتي إليها ينتهي امتداد هذا المشروع العملاق.
ومن سخاء هذه المرأة (زبيدة) أنها أنفقت الكثير من أموالها وجواهرها لتوفير المياه العذبة للحجاج بعد أن كان الهلاك يتربص بهم؛ إذ أنها حين أمرت خازن أموالها بتكليف أمهر المهندسين والعمال لإنشاء هذه العين أسر لها خازن أموالها بعظم التكاليف التي سوف يكلفها هذا المشروع فقالت له «اعمل ولو كلفتك ضربة الفأس ديناراً».
وقد بلغ طول هذه العين عشرة أميال تقريبا (16كم)، وقيل إن زبيدة قد أنفقت على هذا المشروع مليوناً وسبعمئة ألف مثقال من الذهب (5950) كغم، ولما انتهى المشروع ككل اجتمع لديها العمال وأخرجوا دفاترهم ليعرفوا مقدار ما صرف وما بقي لديهم براءة لذممهم، وكانت السيدة زبيدة في قصر مطل على دجلة فأخذت الدفاتر ورمتها في النهر قائلة: «تركنا الحساب ليوم الحساب فمن بقي عنده شيء من المال فهو له ومن بقي له شيء عندنا أعطيناه»، ثم قامت وألبستهم الخلع والتشاريف.
وبفعل العوامل الطبيعية فقد تعرضت عين زبيدة للانقطاع لقلة الأمطار أو ما طرأ على قنواتها في بعض الأحوال من تخريب جراء السيول وتوالي الأزمان، وكان الخلفاء والسلاطين ينظرون بعين الاعتبار إلى ضرورة إصلاح ما تهدم من تلك القنوات.
في العهد العثماني
ولما كان في زمن السلطان سليمان العثماني حين انقطعت عين زبيدة وتهدمت قنواتها وصار أهل البلاد يستقون من آبار حول مكة يقال لها (العسيلات) وأخرى تسمى (الجوفي) حتى صار الماء هو مطلوب الفقراء من الحجاج لغلاء ثمنه وندرته، ولما عرض هذا الحال على السلطان سليمان أمر أن يعاد إصلاح العين وقنواتها وقدر لهذا 50 ألف ليرة عثمانية، وقد كان يظن السلطان أن ينجز هذا المشروع في عام واحد إلا أن الأمر لم يكن بالحسبان إذ أنه أنفق مالاً كثيراً قارب الـ(500) ألف ليرة عثمانية ذهبية ولم يتم إنجاز هذا المشروع إلا بعد عشرة أعوام على يد أحد القضاة ويدعى الحسني.
في العهد السعودي
أما في العهد السعودي الزاهر فقد قام الملك عبدالعزيز بإنشاء إدارة خاصة لإدارة العين سميت (عين زبيدة) تشرف إشرافاً كاملاً على العين والآبار الخاصة بها وترميمها وذلك سنة 1346هـ، كما تم توزيع مياه هذه العين في (دبول) أي مجار صغيرة ثم تصب هذه الدبول بالبازان وهو عبارة عن بئر عميقة تصب فيه عين زبيدة ويقوم السقايا بسحب مياهه عن طريق الدلو وتوزيعها على البيوت بواسطة أوان خاصة تسمى (الزفا)، وقد استمرت هذه العين قائمة شامخة أكثر من 1200 سنة إلى أن حلت مكانها مياه التحلية التي تنتج كميات هائلة من مياه البحار بسبب زيادة أعداد السكان والاتساع العمراني الشاسع في مكة المكرمة.