توجد في القرآن عدة محددات منهجية ومعرفية في فهم نوع العلاقة مع الآخر، وفي إدراك الموقف من الهجرة خارج الأوطان، وفي الوعي برسالة الإنسان والمكلفين على وجه الأرض.
ومن هذه المحددات استفاضة النص القرآن في تأطير مدلول الاستخلاف بوصفه مهمة بشرية محضة، انبنت على أساسه قضية الإنزال إلى الأرض ومن ثم إعمارها والسعي فيها بالخير والعمل الصالح.
قال تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)، وقال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا)، وقال تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور).
ففي الآية الأولى نتوقف عند عبارة (كتبنا)، وهي في دلالتها العميقة تنصرف إلى إيراد سياق آخر ليفيد معاني الإقرار والتشريع، وإن صح الأمر واتسق بهذا المعنى فعلى أساسه يستدل على كون الهجرة في الأرض شريعة قديمة منذ العهد الموسوي، وأن الأرض ميراث محض لأهل الخير والصلاح، والأرض هنا بمعنى التراب والعمران ونفاذ القرار على الأرض وامتلاك السلطة على مجال حدوده.
وفي الآية الثانية نجد الترابط التام بين العمل والجزاء، فالإيمان والعمل الصالح سبب في الفوز بثلاثة وعود، وهي كلها ذات وشائج بالأرض، وهي الاستخلاف فيها، والتمكين في الدين على الأرض، واستتباب الأمان فيها.
فالأمر المهم في هذه الآية هو ورود سبب من أسباب تيسير أمر التدين على سبيل التخصيص، وهو حفظ الأمن أو ما يعبر عنه حالياً بالاستقرار السياسي، وهي إشارة واضحة في مدى الترابط بين حالات الإقامة والهجرة بعنصري الأمان والخوف، وفي ذلك دلالة على أن معيار الأرض يرجع فلسفياً إلى هذه القيمة الاجتماعية والسياسية.
أما الآية الثالثة ففيها تلازم آخر بين جعل الأرض وتذليلها بتيسير السعي بين مسالكها، وطلب الرزق فيها، وهنا نعود لنؤكد على قيمة الاستقرار السياسي والوفرة الاقتصادية التي يدل عليها مفهوم الرزق، في بعد غائي عام مضموم في أمر رباني وامتنان إلهي جاء في سياق نادر جمع بين الأمر والامتنان، لكن في حضور تام لعناصر الحركة والاندفاع والسعي والمشي، لحث الإنسان على الانطلاق والبحث والكد والانفتاح، وعبور الأرض والانتشار بين مناكبها، دون فصل بين ما هو لي وما هو للآخر، وفي نهي ضمني عن الانكفاء والتقوقع على الذات.
وهكذا يجد المؤمن نفسه مجبولاً بأمر الدين أمام دعوة مفتوحة إلى الخروج إلى الناس، والعبور إلى القارات لأجل البلاغ بوصفه سفيراً للنوايا الحسنة، ومأموراً بنقل تجربة الصلاح والفعل الخير إلى أرجاء المعمور، وهذه سمة تطبع الشخصية الإسلامية استلهاماً من عالمية الإسلام ورسالته الكونية، التي تستغرق كل الأوطان والأجناس والأوقات إلى قيام الساعة.