مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

فن الطرد والصيد.. في الشعر العباسي

نما الصيد والطرد وازدهر في ظل الدولة العباسية وذلك لولع خلفائها به تقليداً لملوك الفرس وتشبهاً بهم في هذا المضمار. فقد أغرم به المهدي وكان ذا عناية كبيرة بالصقور والبزاة وكلاب الصيد، وشغف به الأمين وكذلك المتوكل والمكتفي والمعتضد.. وأدى ذلك كله إلى ازدهار شعر الطرد في هذا العصر، حتى أننا لا نكاد نجد شاعراً إلا ونظم فيه، ولم يترك الشعراء ضارياً من ضواري الصيد إلا وصفوه، ولا جارحاً من جوارحه إلا نعتوه.. الكلاب والفهود والبزاة والصقور والعقبان وحمر الوحوش والأرانب والثعالب والذئاب والأسود والطير والأوز.
ومن أبرز الشعراء في هذا الميدان: علي بن الجهم، وابن الرومي، والصنوبري، وابن المعتز، الذي يعده الدكتور شوقي ضيف أكبر شاعر نظم الطرديات في العصر العباسي.
وشعر الصيد وجد اهتماماً أكثر عند بني حمدان الذين كانوا يدينون بالولاء في أغلب الأوقات للدولة العباسية حتى إن أحد شعرائهم وهو (كشاجم) قد ألف كتاباً خاصاً عن الصيد سماه (المصايد والمطارد) جمع فيه أنواع الطيور الخارجية وصفاتها وأخلاقها وطرق تدريبها وأمراضها وعلاجها، كما تحدث فيه عن وحوش الصيد وكلابه. وهكذا أصبح الصيد فناً ينشد فيه الشعر وتؤلف فيه الكتب، وإلى ذلك يشير آدم متز قائلاً: (على الرغم من أنواع الرياضة الكثيرة التي انتشرت في القرن الرابع فقد بقي الصيد محتفظاً بكل ما له من شأن، بل ظهرت في تمجيده قصائد خاصة، إلا أن معظمها يدور حول كلاب الصيد ووصفها).
ألم يقل الشاعر أمام الخليفة العباسي مادحاً إياه:
أنت كالكلب في حفاظك للود
    وكالتيس في قراع الخطوب
ألم يقره الخليفة على ذلك؟ لأن الكلب عند الأعراب كان مثلاً في الوفاء لصاحبه؟ ألا يخجل بعض رجال زماننا من وفاء ذلك الكلب؟ ألم يتندر شوقي بحافظ إبراهيم في قصتهما المشهورة في مقهى من مقاهي النيل بقوله:
وأودعت إنساناً وكلباً أمانة
    فضيعها الإنسان والكلب حافظ
فاعترف له حافظ بأنه أمير الشعراء.
ويرد الدكتور مصطفى الشكعة على رأي متز قائلاً: (وكلام متز يصور حقيقة الحال فيما يتعلق بنشاط الصيد وكثرة شعر المطارد في القرن الرابع، وإن كان تصوره لكثرة الشعر الذي قيل في وصف كلاب الصيد يفوق ما عداه تصوراً مجانباً للحقيقة إذ العكس هو الصحيح بما تحت أيدينا من نصوص، وبما حواه كتاب كشاجم الحسن بن الحسين من مادة وافرة). فمتى سميت هذه القصائد الشعرية بالطرديات؟ وماهي الطردية؟ الطرديات جمع طردية بفتح الطاء والراء، وهي تلك القصائد التي يكون موضوعها الصيد. وهو فن جديد في الشعر نشأ ليواكب اهتمام بعض شعراء الإسلام بهذه الهواية الممتعة المفيدة. إنها نوع من المطولات الشعرية نظمها شعراء أغرموا بالصيد غراماً شديداً أطلق عليها اسم الطرديات وهي الأرجوزة أو القصيدة التي تتحدث عن حملة من حملات الصيد يخرج إليها فريق من الناس قد يكون على رأسها أمير، وقد لا يكون هناك أمير أو رئيس، إنما أصحاب ورفاق متحابون متماثلون، يستمتعون بأوقاتهم في سرور وحبور بالصيد، وبما ينعمون به من لهو، ومشاركة الشاعر بشكل من الأشكال تكون ضرورية وذات أهمية لأنه يوثق لهذه الرحلة الصيدية بالكلمة الموزونة. ولهذا لا يصح أن تطلق كلمة طردية على قول في كلب أو في فهد، وليس من الطرديات ما قاله شعراء الجاهلية في الصيد حيث إن كلمة طردية متأخرة عنهم تقريباً.
وقد كانت الآية القرآنية الكريمة (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ الله سَرِيعُ الْحِسَاب). تشجيعاً لهم على هذه الهواية، حيث نمت وترعرعت خصوصاً في ظل الدولة العباسية، وكثرت الطرديات في شعر شعرائها، فنجد أغلب شعراء الأسرة الحمدانية مثلاً يتناولونه كل حسب رأيه ووجهة نظره ورؤيته الخاصة، فتبارى في هذا القول كشاجم والببغاء والمتنبي والسري وأبو فراس الحمداني.
أما هؤلاء الشعراء فقد وصفوا الصيد والطرد بقصائد مختلفة، فالسري الرفاء مثلاً له طرديات كثيرة وصف فيها الطرد بالطيور الجوارح وبالكلاب وبالقس دون الاستعانة بالجوارح أو الكلاب، ومن قوله في وصف كلاب الصيد:
غدوت بها مجنونة في اغتدائها
    تلاقي الوحوش الحين عن لقائها
لهن شيات كالزوابح أصبحت
    مولعة ظلماؤها بضيائها
وأيد إذ سلت صوالج فضة
    على الوحش يوماً ذهبت بدمائها
ويتضح من قول السري الرفاء أنه نهج قول ابن المعتز وابن الرومي في تشبيهاته ومعانيه وأفكاره، فهو لم يكن لديه نهج خاص به وإنما كان يقلد شعراء جيله. أما المتنبي، مالئ الدنيا وشاغل الناس وشاعر سيف الدولة، فقد أنشد قصائد كثيرة في الطرد، ولكن ما قاله أثناء وجوده لدى الحمدانيين أبيات نظمها حينما أرسل أبو العشائر بازياً على حجلة فأخذها، فقال المتنبي في وصف البازي ومطاردته لفريسته:
وطائرة تتبعها المنايا
    على آثارها زجل الجناح
كأن الريش منه في سهام
    على جسد تجسم من رياح
كأن رؤوس أقلام غلاظ
    مسحن بريش جؤجئة الصحاح
فأقصعتها بحجن تحت صقر
    لها فعل الأسنة والرماح
فقلت لكل حي يوم يموت
    إن حرص النفوس على الفلاح
ومما يروى عن المتنبي أنه قال إنه يستطيع أن يصف الصيد دون أن يحضره، وفي هذا يقول آدم متز: أما المتنبي فهو مثال للأستاذ العالم الذي يستهويه المعنى الكلي، فمن ذلك أن رجلاً خرج للصيد مرة وكان معه كلب فطرد به ظبياً ولم يكن معه صقر، فاستحسن صيد الكلب، وقال للمتنبي: (ونايا أبا الطيب لو كنت معنا، فقال له: أنا قليل الرغبة في مثل هذا. فقال له الرجل: إنما اشتهيت أن تراه فتستحسن، وتقول فيه شيئاً، فأجاب المتنبي إنه يستطيع أن يفعل ذلك من غير أن يحضر الصيد أو يرى الكلب، وقال قصيدة وصف بها الكلب وسرعته على الطريقة المأثورة).
أما لماذا لم يكثر المتنبي من شعر الطرد عند الحمدانيين؟
في اعتقادي إن هناك أمراً واحداً مهماً قد شغله عن ذلك، وكان في نظر المتنبي أهم من الطرد، فهو شاعر الأمير، والأمير أغلب أوقاته مشغول في حروبه سواء مع الروم أو المنشقين عليه من الداخل، فالحروب لم تترك لسيف الدولة الوقت الكافي للصيد، فكان صيده وهو ذاهب إليها أو عائد منها. وكان أبو الطيب طيلة الوقت مشغولاً في إعداد القصائد الحربية التي تمجد هذه البطولة في رأيه أهم من الطرديات:
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
    ووجهك وضاح وثغرك باسم
كما أن هناك سبباً آخر يرجحه الدكتور الشكعة بقوله:
(لعل أبا الطيب قد تردد كثيراً في إنشاء الطرديات هيبة من كشاجم أستاذ الطرد شعراً وتأليفاً، ولم يكن المتنبي من السذاجة والبساطة حتى يورط نفسه في ميدان لا يضمن لنفسه فيه السبق والتقدم).
أما أهم شعراء الطرد في المجتمع العباسي وخصوصاً عند الحمدانيين فهو كشاجم الذي وصل من اهتمامه بهذا اللون من الفن أن ألف كما قلنا كتاب المصايد والمطارد، فقد كان أدق الشعراء وصفاً لجوارح الطير لأنه عالم خبير بأحوالها وأنواعها وأمراضها، ملم بطريقة تدريبها.. ومن قوله في وصف البازي وجمال منظره وجرأته في الانقضاض على الفريسة قوله:
لما لم أجد الليل في انحيازه
ولاح ضوء الصبح في أعجازه
دعوت سعدا فأتى ببازه
يحمل يسراه على قفازه
ضامن زاد جد في إحرازه
ندبا هوان الطير في إعزازه
أقر أنه تنكل عن برازه
فابتزه الموش من طرازه
فصاد قبل الشد في اجتيازه
خمسين حزنا هن باحتيازه
ما أسلف البر فلم يجازه
ولا خلا في الوعد من إنجازه
وقد أكثر في شعره من وصف الصقر لأنه أصبر على الشدة، وأشد إقداماً، كما وصف الباشق وهو من جوارح الطير صغير المنظر ثقيل المحمل طويل الساقين والفخذين، عظيم السلاح بالنسبة إلى جسمه:
وباشق ذي نخوة
    على الطيور ذو سخط
كالكوكب المنقضي أو
    سهم من القوس انخرط
كأنما جؤجؤه
    وشي محوك في نمط
كأنما نقلته
    فص من التبر خرط
يهبط بالطير معا
    إذا علا ثم هبط
غزا فأردى حجلا
    منها ودراجا وبط
كما وصف من صنوف الجوارح البيدق، وهو جارح صغير لا يصيد إلا العصافير، ومن قوله فيه وقد رباه على يديه:
حسبي من البزاة والزرارق
    بيدق يصيد صيد الباشق
مؤدب مدرب الخلائق
    أصيد من معشوق لعاشق
يسبق في السرعة كل سابق
    ليس له عن صيده من عائق
ربيته وكنت عين الواثق
    أن الفزارين من البيادق
أما أبو فراس الحمداني فقد قال مزدوجة طردية في هذا الخصوص ونظمها على وزن بحر الرجز وهو بحر نظم فيه أكثر الشعراء في شعرهم عن الطرد. ويلاحظ في أرجوزة أبي فراس أنها تعتمد على فكرة وغرض واحد وهو الصيد، أي على وحدة الموضوع مع تنوع القافية ليستطيع الشاعر أن يطيل بالقول دون أن تقف القافية حائلاً دون ذلك. ويقول أبو فراس في هذه المزدوجة واصفاً البازي بقوله:
جئت بباز حسن وهبرج
دون العقاب وفويق الزمج
زين لرائيه وفوق الزين
ينظر من نارين في غارين
كأن فوق صدره والهادي
أثار من الذر في الرماد
ذي منسر فخم وعين غائرة
وفخذ ملء اليمين وافرة
أما أبو نواس فإن أكثر طردياته فتدور حول صيد الكلاب. وقد كان القدماء يصيدون على الفرس ويقبحون في الغالب كلاب الصيد. وتصور الطرديات الكلب تصويراً قوياً، وخلعت عليه أجمل الصفات من شجاعة وخفة وبراعة في الوثوب على الفريسة واقتناصها.. يقول أبو نواس:
أنعت كلبا ليس بالمسبوق
    مطهما يجري على العروق
جاءت به الأملاك من سلوق
    كأنه في المقود الممشوق
إذا عدا عدوة لا معوق
    يلعب بين السهل والخروق
يشفي من الطرد جوى المشوق
    فالوحش لو مرت على العيوق
أنزلها دامية الحلوق
    ذاك عليه أوجب الحقوق
وممن اشتهر بالطرد علي بن الجهم إذ يقول:
وطئنا رياض الزعفران وأمسكت
    علينا البزاة البيض حمر الدرارج
ولم تحمها الأدغال منا وإنما
    أبحنا حماها بالكلاب النوابح
بمستروحات سابحات بطونها
    على الأرض أمثال السهام الزوالج
ومستشرفات بالهوادي كأنها
    وما عقفت منها رؤوس الصوالج
وخلاصة القول إن شعر المطارد ظاهرة من ظواهر العصر العباسي، ولكنها لم تشمل المجتمع كله، بل كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بذوي الجاه والسلطان والغنى، وقد نالت اهتماماً كبيراً في مجتمع الحمدانيين لما عرف عنهم من قدرة على الصيد والقنص ينشغلون به كوسيلة من وسائل اللهو والمتعة قبل أن يكون طلباً للقوت أو دفاعاً عن النفس.

ذو صلة