مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

سير بلوتارك الخالدة

دوَّن بلوتارك قيد حياته سلسلة من الكتب سمَّاها ( سير متوازية)، وكل كتاب منها يتضمَّن سيرة يونانِيَّة تُقابلها سيرة رومانِيَّة، وتلحق بهما دراسة مُقارنة. وقد أضاف تراجم لسير منفصلة لشخصِيَّات لم توضع موضع مقارنة.
ولد بلوتارك في عهد الحاكم الروماني كلوديوس في منتصف القرن الأول الميلادي، بمدينة خيرونيا في بويوتيا، حيث استقرت أسرته هناك منذ فترة طويلة، ونالت حظوة كبيرة ومكانة اجتماعية متميزة. تلقى بلوتارك تعليمه في أثينا على يد الفيلسوف أمونيوس، وزار مصر حسب بعض الروايات، وقضى في روما ردحاً من الزمن مبعوثاً في مهمة رسمية، وبقي فيها مدة سمحت له بالاطلاع على أحوالها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ليعود بعدها إلى مسقط رأسه باليونان، حيث ساهم في تسيير شؤونها وقام بأعباء الكهانة لأبوللو في دلفي مدة طويلة.
أشهر ما كتبه بلوتارك مجموعة السير المتوازية، مع العلم أن لدينا قائمة بمؤلفاته الأخرى، لكن لا وجود لها حتى الآن، فغالبيتها في حكم المفقود. كما ترك مجموعة من الرَّسائل المهمة أشهرها رسالة تتضمن مجموعة من أقوال الملوك والقادة أهداها إلى الحاكم تراجان.
من خلال كتاب سير متوازية، الذي ترجمه جرجيس فتح الله إلى اللغة العربية، وصدر لأول مرة سنة 2012م، عن منشورات دار الجمل في ثلاثة أجزاء ضخمة؛ يبدو بلوتارك أخلاقياً أكثر منه مؤرخاً، فاهتمامه بالطَّبائع والشَّخصيات والأعمال الفريدة والدَّوافع الخاصّة إلى تلك الأعمال أكثر بكثير من اهتمامه بشؤون السِّياسة وبتغيِّر الإمبراطوريَّات والدُّول.
قيل الكثير عن عدم دِقَّة بلوتارك في نقله للأحداث التاريخية، ولا يُنْكِرُ أحد أنَّه كان قليل الاحتفال بالأرقام، وأحياناً يُناقض أقواله بنفسه، وأعظم منقصة تؤخذ عليه تعلُّقه الشَّديد بالحكايات والقصص التي كان أوَّل المدركين لزيفها. كما أنه لم يُنصف دسموستينيس وبريكليس، إذ ورث عن أفلاطون تحامله على ثانيهما.
مُعالجته اللاتاريخية لشخصِيَّاته تجعله يبدو أحياناً غير دقيق، إذ يصعب فصل الجانب الأسطوري منها عن الجانب الحقيقي كما أقَرَّ هو نفسه، لكن سيجد القارئ مُتعته وهو يقرأ سيراً مُسهبة لحياة عظماء الرُّومان واليونان. ومن العبث أن ينتظر المرء سيراً أمينة في عصر بلوتارك. وقد انتقيت بعض المواضيع الطَّريفة التي يختلط فيها الواقع بالخيال، والتي وردت في سِيَرِهِ، ومنها عقيدة الأرواح الشِّريرة التي تتكرر باستمرار، ومنها قوله: (كان الجن في مبدأ أمرهم بشراً، اتَّبعوا طريق الصَّلاح وتساموا في الفضائل حتى انسلخوا عن أجسامهم البشريَّة وتخلَّصوا من أوضار وجودهم الأرضي وارتقوا إلى مرتبة الجن هذه، وهنا اعترضهم أحد أمرين إما أن يستمروا في التسامي والارتقاء أو السقوط مرة أخرى ليعودوا إلى الجسم البشري ويتقمصوا اللحم والعظم!). وعن نهاية الكاتب اليوناني شيشرون المأساوية وانتقام العناية الإلهية منه، كتب: (حين لمح شيشرون مُطارده هرنيوس يقترب، ربَّتَ بِيُسراه على ذقنه وأراحه عليها كما اعتاد أن يفعل، وتطلَّع إلى قاتله بنظرة ثاقبة. وكان الغبار يعلوه، وقد ظهر الإهمال على شعر رأسه ولحيته، وبدا التعب والإرهاق على وجهه. وحجب الواقفون وجوههم عندما تولى هرنيوس قتله بعد أن أخرج له عنقه من المحفة. وكان له من العمر آنذاك 64 سنة. قطع هرنيوس رأسه، وبتوصية خاصة من أنطوني قطع أيضاً يديه اللتين دونتا الفيلييات (خطب شيشرون ومقالاته ضد أنطوني)، وعندما جيء بأعضاء شيشرون المبتورة إلى روما صاح أنطوني: والآن فلنضع حداً لإهدار الحقوق. وأمر أن يثبت الرأس واليدان في موضع الخطابة في الفوروم. وكان منظراً استنكره الروم واشمأزوا منه (...) وبعد مرور زمن طويل زار القيصر أحد أحفاد شيشرون، فوجده يمسك بكتاب من كُتُبِ جَدِّهِ، وهو يُحاول إخفاؤه تحت طيات ثوبه، فلحظ قيصر ذلك وتناول الكتاب وأخذ يقلب أوراقه وهو واقف، ثم أعاده قائلاً: هذا يا صغيري رجل عالمٌ ومُحِبٌّ لوطنه... وبعد ذلك بقليل قضى قيصر على أنطوني وجعل ابن شيشرون قنصلاً محلَّه، وأمر بإنزال تماثيل أنطوني كلها ومحا كل آثاره (...)، وبهذه الوسيلة أوكلت العناية الإلهية إلى أسرة شيشرون بأعمال القصاص من أنطوني). وينقل بلوتارك عن ولادة شيشرون قائلاً: (وأما عن ميلاده، فقد رُوِيَ عن أمِّه أنَّها ولدته دون مخاض أو ألم!). وقيل أيضاً: (إن رؤيا ظهرت لمرضعة تنبئ بأن الطفل الذي تتولى إرضاعه سيغدو فيما بعد عظيمَ نَفْعٍ لحكومات روما!). وقد أيَّد شيشرون عملياً هذه التكهنات التي تؤخذ بصورة عامة مأخذ الأوهام والأحاديث الفارغة وجعلها نبوءات حقيقية!. ومما ورد لدى بلوتاركوس أيضاً حديثه الاستثنائي عن الأصل الإلهي للإسكندر، فمِمَّا حكاه في السِّير قائلاً: (شوهدت مرَّة أفعى مستلقية في الفراش مع أوليمبياس وهي نائمة، فكان هذا أهم عامل في خمود عاطفة فيليب نحوها. وسواء في ذلك أكان خوفاً منها بوصفها ساحرة، أم ظنه بأنَّ لها علاقة بأحد الآلهة فعد نفسه غير مرغوب فيه، فإنه بعث فيليب خيارون الميغابوليسي ليستشير عرافة أبوللو في دلفي. فورد الأمر بأن يُقدم فيليب قرباناً وأن يخُصَّ به الإله أمون من بين سائر الآلهة. وأنذر بأنه سيفقد يوماً ما تلك العين التي خُيِّلَ له بأنه اختلس النَّظر بها من شق الباب فرأى الإله وهو على شكل حية مع زوجته. ويقول إيراستينوس بأن أوليمبياس عندما رافقت الإسكندر وهو في طريقه للانضمام إلى الجيش والمشاركة في أول قتال له، كشفت له عن سِرِّ ولادته وطلبت منه أن يتحلَّى بالشَّجاعة والإقدام الجديرين بأصله الإلهي)!. ومما ذكر أيضاً عن ولادة الإسكندر قوله: (وفي الليلة السابقة لزفافهما حلمت (أريمباس) بأن صاعقة انقضت على جسدها فأشعلت ناراً عظيمة تفرقت ألسنتها فيما حواليها ثم خمدت. وبعد مرور زمن على الزواج رأى فيليب في الحلم أنَّه ختم على جسد امرأته بختم خُيِّل له أن النَّقش المحفور عليه يُمثل صورة أسد. وقد فسَّر له بعض العرَّافين هذا الحلم بأنه تحذير لفيليب ليشتد في مراقبة زوجته. إلا أن أريستاندر التلمسوسي أكَّد أنَّ حلمه يعني أن الملكة قد حبلت بجنين ذكر سيكون في مستقبل الأيام قوياً شجاعاً كالأسد الضرغام).
أقيم لبلوتارك، صاحب أقدم كتاب في التَّراجم المُسهبة، تمثالٌ يُخلِّد ذكراه بالعاصمة الرُّومانية، وقد ختم أحدهم مُمَجِّدا هذه الشَّخصية الفَذَّة التي اشتهرت بالسِّير المتوازية، وبخاصة أنَّها أثرت في كتابة السِّير من بعده قائلاً: (يا بلوتارخ الخيروني، إن تمثال الشُّكر هذا الذي أقامته روما ذات المجد العسكري العظيم تكريماً لذكراك الخالدة، فهي وبلاد اليونان شاركتا في شهرتك معاً، فلقد كتبت سِيَرَ أبطالهِمَا وقارنْتَ بينهما، لكنك لم تستطع أن تكتب سيرتك، إنَّ لِسِيَرِهِمْ أقْراناً أمَّا سِيرتُك فما لها قرين).

ذو صلة