تعد المرحلة التي عَرَفَ فيها الجنس البشري الكتابة من أهم المراحل التي أحدثت فرقاً جوهرياً بين الإنسان قبلها وبعدها، وما ذلك إلا لأن الكتابة بجانب كونها وسيلة ناجعة مكنت الإنسان من التواصل مع غيره، فهي أيضاً سِجِلٌ مُوَثِقٌ لتاريخه، راصد لخبراته المختلفة. وهذا التوثيق يستفاد منه، ويبنى عليه، مما يُكَوِّنُ ويُشَكِلَ لبناتٍ مفصلية متراكمة في سلم الحضارة الإنسانية.
وحضارات الأمم والشعوب قِيْسَتْ، وما تزال تقاس بمقدار نتاجها المعرفي كَمّاً وكيفاً، وبكل ما هو موثق من تراثها وثقافتها، كتابة وفناً ونحو ذلك.
والكتابة خالدة خلود بني آدم على هذه المعمورة، باقية ما بقي الإنسان حتى قيام الساعة، ومن المفارقات حقاً أن الإنسان حينذاك يُخْرَجُ له كتاب يلقاه منشوراً، بينما البداية في تاريخ الإنسان المسلم هي كلمة (اقرأ)، وفي المسيحية (في البدء كانت الكلمة).
الكتابة تقترب من الفعل المقدس، إن لم تكن (هو) نفسه في بعض حالاتها، وحُقَّ لها ذلك، وهذا ما ينبغي لها. ألم تَقُمْ الديانات السماوية على أساس من كتب منزلة من رب العزة والجلال؟ أليست القوانين والمبادئ والقيم والتشريعات مسطورة، ومحفوظة بين ثنايا كتب قيمة، نُقِشَتْ بمداد ضخم على أوراق صفراء وبيضاء؟
ورغم هذه الميزة الفريدة، والمزية العالية للكتابة، فإن هناك كتابات لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به، وحرام فيها ذلك البياض الناصع للورق الذي لَوَثَتْهُ، والفرق في نظري بين الكتابة البشرية الخالدة، وبين تلك التي هي قليلة الأثر، أو عديمته يكمن في أمور عدة من أبرزها الصدق الكامن وراء كلماتها، وعبر حروفها.
قال تعالى: (فوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُون). وقال تعالى: (كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ). ونحسب أن الكتابة هنا مثلها مثل القول، أو قريباً منه، والله أعلم.
تقول الكاتبة الأمريكية (أنآيس نين): (دور الكاتب ليس قول ما يمكننا قوله جميعاً، بل ما لسنا قادرين على قوله).
أليس الصدق هو من أهم ما عجز ويعجز عن قوله جَمٌّ غفير من الأدباء والكتاب؟
والصدق الذي يصعب قوله لا يكمن في قول الحقيقة المجردة فقط، بل يتضمن الصدق في المشاعر، وقبلها في النوايا.
يقول الناقد الأمريكي: (توم بيسيلل): (الكاتب العظيم يصرّح بالحقيقة حتى إن كان لا يرغب بذلك).
ومن معايير خلود الكتابة العمق في التعاطي مع قضايا الإنسان، ومقاربتها وتقاطعها مع أسئلته الكبرى، ومشكلاته العظمى المُؤَرِقَةْ التي تهدد كينونته، وتَحُدُ من إبداعه، وعطائه لخيره، وخير بني جنسه، وأعني ذلك الإبداع والعطاء الذي يتجاوز كل تقسيم أو تصنيف، متعالياً فوق كل الأيدلوجيات التي تفرق ولا تجمع، وتعيق جريان النبل الإنساني ولا تغدقه.
وفي هذا الصدد يقول الكاتب الأمريكي (ويليام فوكنر) -مسدياً نصيحته للكتَّاب المبتدئين- أثناء تسلمه جائزة (نوبل):
(على الكاتب ألا يدع في ورشة عمله أي شيء عدا حقائق القلب الإنساني، تلك الحقائق الأزلية التي لا تكون فيها كل قصة إنسانية مجرد حكاية عابرة، محكوم على الحُبِّ فيها بالموت، عليه (أي الكاتب) أن يكتب عن الحب الحقيقي والشرف، والشفقة والفخر، والعاطفة والتضحيات الحقة. وما لم يفعل الكاتب ذلك، فإن اللعنة سوف تحل به، وتلقي بظلالها على نتاجه).
ويقول أحدهم: (ما فائدة القلم إذا لم يفتح فكراً، أو يضمد جرحاً، أو يرقأ دمعة، أو يطهر قلباً، أو يكشف زيفاً، أو يبني صرحاً يَسْعَدُ في ظلاله الإنسان).
ومع الانفجار المعرفي الهائل الذي تشهده البشرية اليوم، ومع توافر منابر النشر، وتعددها، وتَمَكُنِ كل إنسان تقريباً، متى ما أراد، من إصدار صحيفة أو مجلة أو مدونة أو نحو من ذلك، فقد ابْتِذِلَت الكتابة أيُّما ابتذال، ومارسها أقوام ليسوا بأهلها، ولا يَمُتُوُنَ لها بصلة، أساءوا لها شكلاً ومضموناً، وراجت مقولات ظاهرها فيه الرحمة، وباطنه من قبله العذاب من قبيل: (المخرج عاوز كذا)، و(الجمهور وما يريد)، و(لا.. لممارسة الوصاية على الكتابة)، والنتيجة غثاء كالسيل، يملأ المكان، ويشغل الزمان، وتافهون كُثْرٌ تصدروا المشهد، بعد أن جعلت منهم بعض وسائل الإعلام، قديمة وجديدة نجوماً يشار لها بالبنان.
والعزاء كل العزاء في أن الزَّبَد يَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاس فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ، ويُخَلَدُ في السَفْرِ الإنساني المجيد.