مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

العولمة.. نظام وأيديولوجيا

مع الفتح الكوني المعلوماتي الذي أحدث انقلاباً خطيراً في العالم، وجدنا أنفسنا  في ورطة حقيقية بسبب ظاهرة العولمة التي أصحبت تهدد بنية الدول خصوصاً المتخلفة منها، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي وغيره. ومن ثمة فالواقع الذي تواجهه الدول المستضعفة مقلق للغاية نظراً لتبعاته على مستوى كافة المجالات. وهذا ما سنحاول أن نلقي عليه نظرة مستحضرين مقاربة المفكر المغربي محمد عابد الجابري للموضوع.
افتتح المفكر الجابري حديثه بالتأكيد على أن العولمة تعني أول ما تعني رفع الحواجز والحدود أمام الشركات والمؤسسات والشبكات الدولية، الاقتصادية منها والإعلامية، لتمارس سلطتها بوسائلها الخاصة ولتحل محل الدولة في ميادين المال والاقتصاد والإعلام. وهكذا تقلص شؤون الدولة إلى شأن واحد تقريباً هو القيام بدور الدركي لنظام العولمة نفسه، وإذا تقلصت مهام الدولة انحسر مجال السياسة.
إن العولمة في نظر الجابري تقتضي الخوصصة، أي نزع ملكية الأمة ونقلها للخواص في الداخل والخارج، وهكذا تتحول الدولة إلى جهاز لا يملك. ومن لا يملك لا يراقب ولا يوجه. وبالفعل فدور الدولة في المراقبة والتوجيه في المجال الاقتصادي يتقلص في نظام العولمة إلى درجة الصفر. أما في مجال الاتصال والإعلام والثقافة (فالمراقبة أصحبت مستحيلة عملياً، إذ لم يعد للدولة في هذا المجال سوى خيار واحد هو تسهيل الاتصال وسريان الإعلام لفائدة الشبكات العالمية. أما السياسة الخارجية في نظام العولمة فتتولاها بصورة مباشرة أو غير مباشرة مؤسسات ما يسمى بالمجتمع الدولي وعلى رأسها مجلس الأمر). إذن فجميع هذه الشؤون السالفة الذكر التي تنتزعها العولمة من الدولة الوطنية تنتزعها أيضاً من السياسة، فتتركها دون موضوع. لقد كانت السياسة -حسب الجابري- تمارس، إلى وقت قريب، من خلال النقاش والاختلاف والاتفاق حول شؤون الدولة. كانت الأحزاب تتمايز بتنوع برامجها، باختلافهما وتناقضهما. كان هناك في الجملة اختياران اقتصاديان اجتماعيان تمارس فيهما ومن خلالها السياسة: الاختيار الليبرالي والاختيار الاشتراكي، مع ما في كل منهما من درجات وتعدد وتنوع الشيء الذي يفسح للممارسة السياسية مجالاً أوسع وأرحب. أما اليوم فالعولمة تفرض طريقاً واحداً وفكراً وحيداً: الليبرالية ولا شيء غير الليبرالية التي تعني اليوم الخوصصة والعولمة.
وليس السياسة وحدها من تتأثر بالعولمة، بل المواطن نفسه، إذا يرى الجابري أن المواطنين في عالم العولمة هم صنفان: المستهلكون للعولمة المندمجون فيها المشدودون إلى الخارج -خارج الدولة والأمة والوطن- وهؤلاء مشغولون ومستلبون في عالمهم اللامرئي، عالم الاتصال الذي يسمح بالانفصال. والسياسة تموت مع فقدان إمكانية الانفصال، إمكانية الاستقلال بالرأي. هؤلاء إذن يعيشون في عالم اللاسياسة. أما الصنف الثاني من المواطنين فهم جموع المحرومين المنبوذين من عاطلين عن العمل ومسرحين ومهمشين ومقهورين. فهؤلاء تتركهم العولمة لقانون اصطفاء الأنواع.
وهنا يرى الجابري أن القانون الذي يسري مفعوله في الكون، سواء منه الكون الطبيعي أو الكون البشري، ليس هو قانون الاصطفاء الطبيعي، بل هو قانون الفعل ورد الفعل. يقول هنا: (وإذا كان هناك اصطفاء ما فهو نتيجة الفعل ورد الفعل. ومن هنا يكون الاصطفاء تارة بتأثير الفعل وتارة بتأثير رد الفعل. من أجل ذلك كان التفكير في العولمة من جانب فعلها هي وحدها تفكيراً خاطئاً. وإذن فلا بد من استحضار رد الفعل الذي سيقوم ضدها عاجلاً أو آجلاً، وليس فقط في الأقطار التي تتخذها موضوعاً لها، بل أيضاً في البلدان التي تتخذها مركزاً ومنطلقاً).
إن مبدأ (أكثر ما يمكن من الربح بأقل ما يمكن من المأجورين) -وذلك هو شعار العولمة- مبدأ غير تاريخي، أي أنه لا مشاكل التطور التاريخي، وإنما يتجاهلها لا غير. وهنا يرى الجابري أن الوضع في أواخر القرن العشرين شبيه بالوضع في أواخر القرن التاسع عشر بأوروبا، حيث بلغ تطور قوى الإنتاج مرحلة متقدمة جداً من التطور بالقياس إلى المراحل السابقة. وقد رافق ذلك التطور استفحال علاقات إنتاج استغلالية أثارت ردود فعل عملية وفكرية في أوساط الطبقة العاملة والمتكلمين باسمها المناصرين لقضيتها. وقد استطاعت أوروبا أن تقوم بأنواع من الالتفاف على المشاكل والأزمات التي تعرضت لها نتيجة ذلك، منها الرضوخ لمطالب العمال في تحسين وضعيتهم وإقرار خدمات تخفف من وقع الأزمة. وبذلك استطاعت أن تتكيف مع تلك الوضعية وأن تكذب ما ذهب إليه ماركس في توقعاته من حتمية انفجار تناقضات النظام الرأسمالي وقيام الاشتراكية مكانه.
انطلاقاً من ذلك يرى الجابري أنه ليس من المستبعد أن تقوم ردود فعل شبيهة بتلك، تخفف من أخطار العولمة وسلبياتها، وتحتفظ للدولة الوطنية بدورها في حماية مصالح أقطارها وتوجيه اقتصادها والدفاع عن مصالحها. ويمكن القول -حسب الجابري- إن هناك وعياً متزايداً بضرورة الانتظام في مجموعات متعاونة متضامنة تدافع عن مصالحها كمجموعات وكأعضاء، ليس فقط إزاء أية طموحات هيمنة باغية، بل أيضاً من أجل توفير الشروط الضرورية للتنمية واكتساب القدرة على الصمود في عالم يبدو أن المنافسة ستلعب فيه دوراً تتزايد أهميته وخطورته باستمرار. ولعل الاتحاد الأوروبي مثالاً صالحاً للاقتداء به في هذا المجال.
وللوقوف في وجه الأخطار التي تنطوي عليها العولمة المتوحشة على المصالح العربية، الاقتصادية منها والقومية والثقافية، يرى الجابري أن ذلك يتطلب أكثر من التنديد بتلك الأخطار. ذلك لأنه ما لم تقم مجموعة عربية متضامنة، تنسق خططها التنموية وسياستها الاقتصادية، فإن الوطن العربي لن يستطيع مواجهة المنافسة وميول الهيمنة السائدة على الصعيد الدولي، سواء في إطار العولمة أو في إطار نظام عالمي آخر.
انطلاقاً مما سبق نخلص إلى أن العولمة ظاهرة خطيرة تهدد الاستقرار السياسي والاقتصادي لكثير من دول العالم، خصوصاً ونحن نشاهد تحالفات جديدة بين الدول المالكة للسياسات الاقتصادية والعسكرية، ما يجعل تلك الدول الفقيرة تعاني من تبعات العولمة وخططها غير العادلة والمدروسة فعلاً لفرض استعمار جديد، ما يعني أن باب التبعية سيبقى مفتوحاً، مما يضر بالوحدة القومية لدول العالم الثالث.

ذو صلة