مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

الملك عبدالعزيز في طوابع البريد المصرية

في السيرة التاريخية لبريدنا العربي، توقفت عند إصدارات بريدية تذكارية مصرية قيمة، تؤرخ أحداثاً سياسية على قدر كبير من الأهمية، أبرزها طوابع صدرت عقب وضع الحرب العالمية الثانية أوزارها (1939 - 1945)، حيث أصدرت الحكومة المصرية، من جملة ما أصدرته، طابعين تذكاريين، الأول: (زيارة جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود) 1365هـ، والثاني: (اجتماع ملوك ورؤساء الدول العربية) 1946م، وتدق أهمية قراءة محتوى هذين الطابعين التاريخيين، ولاسيما إذا علمنا أن كل إصدار بريدي منهما كان مبعثه أحداث سياسية، محاطة بمواقف تاريخية معينة وحاسمة، بما يوفر مواد ثقافية ومعرفية، مما يحتاجه الدارسون والباحثون والعلماء من جل التخصصات. وفي هذا المقال أحاول سبر المعلومات التي تحملها تلك الحاويات الصغيرة سفيرة البلدان، والتي مسماها (الطوابع)، بصمة التراسل في عصرها الورقي الجميل الرصين، منذ أن انطلق تقليدها، من أرض الإنجليز في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وحيث وصل إلى دول وممالك العالم في ذلك الحين، وليعم النظام البريدي بتقنياته وإجراءاته منطقتنا العربية من الخليج إلى المحيط، واللافت أنه ساد في أنظمة الطباعة البريدية، نشر صور الحكام كرمز رئيس للبلد، حيث يمثلها إعلامياً، عبر وسائط تداول المراسلات داخلياً وخارجياً.
بحسب المصادر، المهتمة بتاريخ البريد، ثمة إضاءات تربط بين ما وثقته طوابع بريد المملكة وأحداث وقعت على أرضها سواء قبل التأسيس أو بعد التأسيس، ويمكن تلمس جوانب ذلك من خلال بعض السطور المقترح استهلال تلك الدراسة بها، وقبل التطرق إلى قراءة الطابعين وما يؤرخان له من أحداث، أهم موادها انطلاقات الائتلاف العربي في مواجهة القوى الدولية التي دشنت لاحتلال إسرائيل أرض فلسطين، كان أول مكتب للبريد، في جدة العام 1865، حيث أداره الإيطاليون، إذ كانت اللغة الإيطالية هي لغة التعاملات في الأختام البريدية والاتصالات. وقد تحقق هذا عندما اشترت الحكومة المصرية البريد الإيطالي ذا الملكية الخاصة، بتصريح من الدولة العثمانية التي كانت تسيطر على معظم الدول العربية في ذلك الوقت، ليكون النواة الأولى لتأسيس أول مكتب بريدي بالمفهوم الحديث في مدينة جدة. بيد أن الحكومة العثمانية التي كانت تحكم المنطقة عدا نجد افتتحت أول مكتب بريدي خاص بها في جدة عام 1871، واستمر في العمل حتى عام 1881. ويذكر أنه، بعد زوال الحكم العثماني، استخدمت الطوابع الهاشمية التي أصدرها الحسين بن علي، شريف مكة، بعد استقلال بلاده عن تركيا 1916، واستمر العمل بها حتى 1925 أي بعد سنة من تاريخ دخول الملك عبدالعزيز إلى مكة المكرمة وانضمامها إلى بقية نفوذه، لأن قوات الملك عبدالعزيز وجدت الكثير من الطوابع التركية للأعوام 1914 - 1915.
 إن بعد نظر الملك عبدالعزيز الثاقب، جعله يستخدم تلك الطوابع كوسائل إعلام يعلن عبرها للعالم أن الحجاز انضمت إلى نفوذه، في زمن لم تكن فيه وسائل الإعلام المسموعة والمرئية موجودة، لذا أصدر أمره بتوشيح كل ما وجد من طوابع سليمة في مكتب البريد بمكة بعبارة: (بريد السلطنة النجدية 1343هـ) لتأخذ طريقها في الإعلام والإعلان على أغلفة المراسلات الداخلية والخارجية.
كان أول طابع تذكاري ظهر في البلاد مؤرخ في يناير (كانون الثاني) 1930، وكان قد مر أربع سنوات على تنصيب الملك عبدالعزيز ملكاً على الحجاز ونجد، حيث صدرت من البريد الحجازي النجدي، مجموعة تتكون من خمسة طوابع بالألوان وفئات مختلفة تحمل عبارة (ذكرى الجلوس الملكي 8 شعبان 1348هـ، 8 يناير 1930م)، كما تحمل طغراء الملك عبدالعزيز وسيفين متقاطعين وبجانب كل منهما نخلة بشكل مائل، وظهرت حينها اللغة الإنجليزية لأول مرة في الطوابع. أما أول طابع يحمل عبارة (المملكة العربية السعودية) فصدر بعدما أصدر مجلس الوكلاء والشورى قراراً بمبايعة أكبر أبناء الملك عبدالعزيز، الأمير سعود، ولياً للعهد. إذ صدرت عام 1934 مجموعة من الطوابع تتكون من 12 طابعاً، وهذه تعد من المجموعات النادرة والقيمة.
إن أول طوابع بريد حجازية (طُبعت في مصر)، تقدم قراءة لأهم الأحداث التاريخية في توحيد وتأسيس المملكة العربية السعودية، إذ سجلت الطوابع مراحل التأسيس، وهي تشير إلى أن الملك عبدالعزيز آل سعود -يرحمه الله- حمل ألقاب أمير نجد ورئيس عشائرها، والباشا والي نجد وقائدها، وسلطان نجد، وعظمة سلطان نجد وملحقاتها، وملك الحجاز ونجد وملحقاتهما، ثم ملك المملكة العربية السعودية.
ومن الطوابع ما سجل أول مؤتمر عقده الملك عبدالعزيز بمكة المكرمة مع الدول العربية في 20 ذي القعدة 1345هـ، فضلاً عن طوابع لذكرى اجتماع الملك عبدالعزيز مع الملك فاروق بالسعودية، ردّاً على زيارة الملك عبدالعزيز إلى مصر، وطابع يسجل عودة الملك عبدالعزيز من مصر.
الطابع الأول
زيارة جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود 1365هـ
وهو من فئة عشرة مليمات، في شكل المستطيل، مسنن الحواف على غرار معظم الطوابع، صمغي الظهر، رمزي في صورته، يتوسط أعلى العلمين السعودي والمصري التاج الملكي، ومفردات التصاوير، شاغرة من الصور الشخصية، وتحمل الإشارة إلى الاحتفاء بالملك عبدالعزيز المعظم ذلك الضيف الكبير القادم من منزل رسالة نبينا المصطفى (صلوات ربي وسلامه عليه)، فيما تشير إليه (شهادة: لا إله إلا الله محمد رسول الله) المكتوبة، تثمن وتزين وتحفظ العلم الوطني السعودي.
يؤرخ هذا الطابع لزيارة الملك عبدالعزيز آل سعود، مصر سنة 1946م، رداً على زيارة الملك فاروق إلى المملكة العربية السعودية سنة 1945، وهي الزيارة التي أعادت العلاقات بين البلدين بعد أن كان يشوبها بعض التوتر، لقد كان جلالته أول ملك عربي يزور مصر في تاريخها المعاصر. قدم الملك عبدالعزيز راكباً البحر على اليخت الملكي المصري المحروسة، يوم 10 يناير 1946م، والذي أبحر خصيصاً لإحضار جلالته، وقد احتفت به مصر بشكل كبير، شعباً وحكومة وغطى الحدث وسائط الإعلام والمراسلين والمراقبين وغيرهم. استقبله الملك المصري فاروق مرافقاً لجلالته، وأبرزت الصحافة المصرية أهمية الزيارة كونها تشكل مثالاً للعلاقات التي تقوى وتنمو بين مصر وملوك العرب وأمرائهم ورؤسائهم في سائر الأقطار. وتقديراً للقادم المهاب الجليل، أطلقت وزارة الأشغال المصرية اسم الملك عبدالعزيز على شارع النيل بقسم مصر القديمة بمدينة القاهرة. وتم إعداد قصر الزعفران لاستقبال جلالته، وزينت محطات السكك الحديدية، وجهزت الطرق التي يمر فيها الموكب الملكي، وأضيئت المباني الحكومية، واتخذت إجراءات الأمن اللازمة، وتقرر اشتراك جنود الجيش مع الشرطة في المحافظة على النظام، وأعدت أماكن برنامج الزيارة، والذي رصدته الصحافة يومياً ورافق الملك فاروق ضيفه الكبير طوال الزيارة، وتخليداً لهذا الحدث التاريخي بادر السعوديون بالاكتتاب في إنشاء مستشفى، لتخليد هذه الذكرى، سمي باسمه، رحمه الله. شمل برنامج الزيارة بوجه عام القصر الملكي في عابدين، ومقر الحكومة والبرلمان المصري، والجامع الأزهر، والجامعة العربية، وأسلحة الجيش، والمؤسسات العلمية والصناعية، والمستشفيات، وجامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً)، والمعالم الأثرية، والقناطر الخيرية، والمتحف الزراعي، وإصلاحية الأحداث، كما زار المحلة الكبرى، وهي إحدى قلاع الصناعة المصرية وأنشاص ومدينة الإسكندرية التي استعرض بها الجيش المصري، وغيرها من الأماكن المهمة.
الطابع الثاني
اجتماع ملوك ورؤساء الدول العربية مايو 1946م
وقصاصته مستطيلة والطابع على غرار سابقه، ويختص بصورة (ملكية شخصية)، المفترض أن صاحبها حضر اجتماع الملوك والرؤساء العرب سنة 1946، فبحسب المصادر أن تاريخ هذا الحدث (مؤتمر أنشاص) ووقائعه تالية لتاريخ زيارة جلالة الملك عبدالعزيز السابقة في الشهر يناير في نفس السنة، وهذا المؤتمر حضره سمو الأمير سعود (1902 - 1969) نجل الملك عبدالعزيز موفداً من جلالته (وسموه أضحى ملك المملكة فيما بعد) 1953 - 1964. (والصورة الملكية الشخصية في هذا الطابع إذا صح تحقيقي لهويتها فهي تخص الملك عبدالعزيز، وليست منسوبة للأمير سعود، على الرغم من أن سمو الأمير هو الذي حضر المؤتمر في غياب والده جلالة الملك، وثمة أدلة على أن صاحب صورة الطابع هو الملك عبدالعزيز، من هذه الأدلة هو رداء الملك عبدالعزيز واعتماره الرأسي الذي يخصه دون غيره، بحسب جل الصور حديثاً وقديماً التي صورت شخصه الكريم، فيما نشاهده دوماً في الغطاء الرأسي الكوفية الغترة العقال العمامة، ودليل آخر هو أن سن الأمير سعود وقت الحدث كان يقارب الأربعين، والصورة الواردة في الطابع يتخطى سن صاحبها ذلك العمر، فهي لسن في العقد السادس من العمر، على أقل تقدير. ويذهب مخيالي إلى أن مصمم رسم الطابع، في ضوء توجيهات القائمين على الرقابة البريدية، قد حبذوا وضع صورة الملك عبدالعزيز (فهو الحاضر الغائب) وحرصاً على أدبيات توثيق قادة الشعوب، الحكام ذاتهم أنفسهم، والالتزام بحرفية ترميز تمثيل البلدان بحاكمها الفعلي الحي دون غيره وحتى لو كان نائباً للقائد أو مفوضاً عنه، وربما كان في ذهن المصممين للطابع أن مؤتمر أنشاص، هو من ثمرات افتتاحية قدومه الجليل منذ أشهر قلائل منصرمة، مما يصعب من فكرة استبعاد صورته كرائد للحركة العربية الائتلافية، هكذا أعتقد، إضافة إلى تأكيدي على أنه لولا مبادرة الزيارة الأولى ما كانت الثانية.. والله أعلم.
على وجه الخصوص، أجد أن في هذا الطابع مادة تاريخية غزيرة قيمة، وذلك من عدة وجوه، الوجه الأول: تصدير صورة أعظم ملوك العرب على مدى التاريخ الحديث في الطابع، وبما يحمل هذا من دلالة على توثيق فجر اهتمام المملكة ودورها الرائد في القضية الفلسطينية على نحو خاص، وترسيم مستقبل العرب في السياستين الداخلية والخارجية خلال المراحل التالية، والوجه الثاني: إن مصرية الطابع وهي جهة إصداره لا يستشعرها المشاهد، والذي لا مناص تذهب مخيلته تلقائياً ومباشرة إلى صاحب الصورة، وهو الملك عبدالعزيز، وليقل المشاهد في جنسية ونسب ذلك الملك العظيم ما يشاء، أنه قائد الأمة العربية المظفر، يستوي كونه مصري أو سوداني أو خليجي أو شامي أم عراقي أو مغاربي، فبصمته العربية الأصيلة شكلاً ومضموناً، تستوعب جموع العرب مهما اختلفت تقسيمات أوطانهم الإدارية صنيعة الغرب الأوروبي. وأحسب لمصمم رسم الطابع عبقريته (من منظور الفن التشكيلي)، فلقد دلل على أن الملك المؤسس، في وضعية اللوحة إذا صح هذا التعبير كأنه مرآة العرب العاكسة لتطلعاتهم في هذه المرحلة الحرجة من تاريخهم، وما يعتريهم من قلق تهديد مجتمعهم بفعل انطلاق المشروع الصهيوني أو قل وكأنه (البورتريه) المصور لمقر الحدث المهم الذي تجري وقائعه داخل قصر أنشاص، وكان قد جاء في سيرته -يرحمه الله- أنه كان عاشقاً لمصر لدرجة أنه اتخذ لنفسه قصراً كبيراً بالطائف يطلق عليه (قصر شبرا)، كان ملكاً للشريف عبدالله باشا أمير مكة قبل الشريف حسين بن علي. وكان القصر نسخة من مبنى بحي شبرا بالقاهرة أعجب به الشريف عبدالله باشا، وجلب له آلاف الأطنان من المرمر ومواد البناء من مصر ليطمئن بأنه سيكون مطابقاً للمبنى بحي شبرا. من جهة أخرى نجد الإصدار، برسم البريد المصري وهو من فئة أربعة مليمات، موضح أسفله تاريخ المناسبة وهو 28 مايو 1948 باللغتين العربية والإنجليزية، وموضوع المناسبة (اجتماع ملوك ورؤساء الدول العربية) وتقنية الطابع ورقية الصنع، تصاويره وكتابته غير بارزتين، فهي مطبوعة تكرارياً من رسم صور فوتوغرافيا، صاغ مصمم الطابع صورة الملك عبدالعزيز يمين صفحة الطابع (يسار المتلقي) ملتفتاً بزاوية إلى اليسار، فلم يخف وجهه في معظمه على المشاهد، الذي يرى جلالته مرتدياً ثوبه الملكي التقليدي، هذا ويلاحظ أن الالتفاتة متناسقة حافظة لزاوية وضعية (البور تريه) أو (المراية) ولها شكل دائرة، بمنظور تقنيات الصور ثلاثية الأبعاد، نجدها تميل يساراً بعض الشيء، وللدائرة إطار يأخذ تشكيل (الجنزير/ سلسلة)، وكأن مصمم الرسم يلوح إلى الإرادة الحديدية لجلالة الملك (فالسلاسل والجنازير لا تصنع سوى من الحديد أو الفولاذ أو المعادن القوية)، وعن اختصاص صورة الملك بهذه الوضعية الفريدة المؤطرة، فتلك إشارة إلى توكيد المبدأ وعدم الخروج عليه، فهو من الرجال الأشداء، يصمد داخل قالب قضيته الرئيسة في حمل مسؤولية إخوانه العرب، لدرجة أنه قيد نفسه بنفسه داخل صومعته واضعاً الأغلال على ما اختاره وتبناه، تلك هي سمة من سمات الإرادة الحديدية للملك المؤسس طيب الله ثراه.
نجد الملك مولياً وجهه بانحناءة بسيطة شطر بناء فاخر فخم، في واجهة لوحة الطابع ينتهي إليه الداخل عبر طريق عريض في شكل حديقة وارفة يحفها من الجانبين أشجار مهيبة، والمصادر تقول إن المبنى هو أحد قصور الملك فاروق حاكم مصر الذي شرف مصر باستقباله الرؤساء العرب، كأنهم يتقدمهم جلالة الملك عبدالعزيز، وأن القصر يقع في (أنشاص) وهي إحدى القرى التابعة لمركز بلبيس في محافظة الشرقية في مصر.
وأخيراً، وكما تنص المصادر الوثيقة أن قمة أنشاص، عقدت بدعوة من الملك فاروق لمؤتمر عربي (28 - 29 مايو/ أيار) 1946، كأول تظاهرة ائتلافية رفيعة المستوى، تمثلت في اجتماع سبعة ملوك ورؤساء عرب هم المؤسسين للجامعة العربية: مصر، ومثّلها الملك فاروق الأول، والأردن ومثلها الأمير عبدالله الأول بن الحسين، والسعودية ومثلهاً الأمير سعود بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد، واليمن، مثلها سيف الإسلام إبراهيم بن يحيى حميد الدين، والعراق، ومثلها عبدالإله بن علي الهاشمي، ولبنان، مثلها بشارة الخوري، وسوريا مثلها شكري القوتلي. وقد صدر عن مؤتمر القمة قرارات أهمها: مساعدة الشعوب العربية المستعمرة على نيل استقلالها، ونصرة قضية شعب فلسطين، وضرورة الوقوف أمام الصهيونية، والدعوة إلى وقف الهجرة اليهودية، والعمل على تحقيق استقلال فلسطين والدفاع عن كيانها ومساعدة عرب فلسطين، وضرورة حصول طرابلس الغرب على الاستقلال، والعمل على إنهاض الشعوب العربية وترقية مستواها الثقافي والمادي.

ذو صلة