مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

بيكاسو الهند.. أيقونة الحداثة في الفن التشكيلي

يعد مقبول فدا حسين الذي أطلق عليه الغرب لقب بيكاسو الهند، أيقونة فريدة من نوعها في تاريخ الفن العالمي وبحثاً قائماً بحد ذاته سواء في الغرب أو الشرق، ليس باعتباره عرّاب الفن الهندي الحديث، أو لغزارته في الإنتاج لتتجاوز لوحاته المكتملة 40 ألف لوحة أنجزها خلال مسيرته الفنية التي امتدت لما يقارب من 75 عاماً، بل لارتباط لوحاته بتاريخ الثقافات وفلسفة الديانات في الهند.
عمل حسين لبعض الوقت في رسم إعلانات دور السينما، ثم صعد نجمه ليصبح واحداً من أشهر فناني العالم وصارت أعماله تباع بملايين الدولارات، إلا أنه أجبر عام 2006 على الرحيل عن الهند بعدما أثارت رسوماته لآلهة هندوسية عارية، موجة من الهجمات ضد أعماله مثلما أثارت بعض لوحات حسين الجدال في تسعينات القرن الماضي، بسبب رسمه آلهة هندوسية عارية أو على نحو قيل إنه يحمل إيحاءات جنسية. كان حسين قد رسم هذه اللوحات عام 1970، لكن لم يثر جدال حولها سوى عام 1996 عندما نشرت بمجلة بجانب مقال بعنوان (إم. إف. حسين: رسام أم جزار). وبالفعل، لم يعد للهند بعد مغادرتها، وقضى السنوات الأخيرة من عمره بين دبي ولندن وقطر.
حياته ونشأته وإحرازاته
ولد حسين، الذي علم نفسه بنفسه، في باندهاربور في ولاية ماهاراشترا الواقعة غرب الهند، في 17 سبتمبر (أيلول) 1915. وفي سن مبكرة، تعلم فن الكتابة والخط وأتقن الخط الكوفي برسومات هندسية. كما تعلم أيضاً كتابة الشعر، أثناء إقامته مع خاله وارتياده مدرسة دينية، وهو فن ظل ملازماً له لبقية حياته. وحينما كانت تتاح له الفرصة، كان يحمل عدة الرسم على دراجته ويقودها نحو المناطق الريفية المجاورة ليرسم مشاهد طبيعية. وانتقل إلى مومباي، عاصمة الترفيه الهندية، في سن صغيرة وأصبح فناناً يرسم لوحات إعلانات الأفلام السينمائية لكسب قوته، لكن دخله كان محدوداً للغاية وعاش في غرفة رخيصة في حارة يسكنها (قوادون) وفتيات بغاء، وفي أواخر الأربعينات، انضم لأتباع المدرسة التقدمية.
جذب حسين الأنظار إليه للمرة الأولى عام 1947 عندما فاز بجائزة في معرض سنوي أقامته جمعية مومباي للفنون. بعد ذلك، دعي من جانب سوزا للانضمام إلى مجموعة الفنانين التقدميين. بحلول عام 1955، أصبح واحداً من الفنانين الرواد في الهند. وكان ضيفاً خاصاً بجانب باولو بيكاسو في معرض ساو باولو بينيال عام 1971. وكانت هذه نقطة التحول في حياته، حيث التزم نهج بيكاسو ونال الكثير من أبرز الجوائز على مستوى العالم. ‏وقد شارك في العديد من المعارض الدولية التي أقامتها جمعيات الفن الهندي المعاصر والأكاديمية الملكية للفنون بلندن عام 1982، ومعرض تيت غاليري في لندن عام 1985، كما شارك في معرض الرسم الهندي الحديث وغاليري غراي آرت في نيويورك عام 1986.
وفي عام 1976، فاز حسين بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين الدولي للأفلام عن فيلمه الوثائقي (خلال أعين رسام)، وسار الجدال والشهرة جنباً إلى جنب في حياة حسين، حيث اشتهر بالسير حافياً حتى في تجمعات الصفوة. وبمرور الوقت أصبح أعلى الرسامين الهنود أجراً وبلغ سعر إحدى لوحاته مليوني دولار خلال مزاد أقامته دار (كريستيز) مؤخراً. مطلع عام 2008، حصدت لوحة (معركة غانغا وجامونا) سعراً بلغ 1.6 مليون دولار، وظهر اسمه بقائمة أكثر 500 شخصية مسلمة مؤثرة في العالم، وعرفت أعمال حسين عالمياً بعلاقته الوثيقة بالثقافة الهندية، وطور لنفسه أسلوباً خاصاً، يتقاطع مع بيكاسو، من حيث تجزئة الجسم إلى أشكال هندسية، وهو أسلوب ابتكره بيكاسو منذ معرضه الفردي الأول عام 1911 وحمل عنوان التكعيبية التحليلية.
على هامش أعماله الفريدة
ويعد حسين واحداً من أبرز الشخصيات المؤثرة في فن الحداثة بالهند، حيث كان أحد مؤسسي (مجموعة الفنانين التقدميين) في مومباي عام 1947، لا بدّ من الإشارة إلى أن حسين كان يرسم من 10 إلى 15 لوحة يومياً.
خلال زياراته الصيفية إلى لندن كان حسين ينهمك في شيئين أساسيين وهما: الرسم وقراءة التاريخ الهندي. وقد قرر في داخله أن يرسم 96 عملاً فنياً من الحجم الكبير بقياس (16 / 6) أقدام، على أن يضم كل عمل ثلاث لوحات منفصلة، وقد أنجز من هذه السلسلة ثمانية أعمال تضم أربعاً وعشرين لوحة مختلفة في مواضيعها، وهي التي كانت مادة المعرض الأساسية، إضافة إلى لوحة الإله (غانيشا) التي تعد مفتاحاً أساسياً يفضي بالمتلقي إلى عالم المعرض برمته. لا يلتفت الداخل إلى المعرض إلى لوحة (غانيشا) الصغيرة الحجم، وإنما تغريه الأعمال الثمانية التي تحتوي كل واحدة منها على ثلاث لوحات متساوية الأبعاد مختلفة الثيمات.
تضم الثلاثية الأولى من جهة اليسار الإمبراطور المغولي الأكبر العظيم، المتزوج من الأميرة جودا، التي أنجبت له ولداً اسمه سالم، الذي سوف يصبح ملك جهنكير بعد والده. أما اللوحة الثانية في المنتصف، فتركز على آشوكا أعظم إمبراطور موري بالهند، وهو من وحّد أجزاء كثيرة من الهند وباكستان وبنغلاديش وأفغانستان. أما لوحة اليمين فتسلط الضوء على الحكم البريطاني الذي امتد من 1858 حتى1947.
تصور الثانية حكاية المدن الثلاث التي تعد أعظم مدن الهند؛ وهي دلهي التي تمثل الأمة في الهند، وفاراناسي التي تعتبر مركزها الروحي، وكلكتا ثقافتها ومركز أنشطتها المختلفة. يركز العمل الثالث المعنون بـ(المهرجانات الهندية التقليدية) على ثلاثة موتيفات، الأول يحمل عنوان (قدوم الربيع)، والثاني (النبتة المقدسة) أما الثالث والأخير فيركز على ليلة القمر المكتمل والأضواء العائمة على النهر والتي تمثل قوة الضوء وسطوته. أما العمل الرابع فهو عن أشكال الرقص الهندي، حيث نشاهد في جهة اليسار الفنانة مادهوري ديكسيت التي تؤدي رقصة الـ(كاثاك)، وهي رقصة تاريخية نشأت في شمالي الهند. أما لوحة الوسط فيرقص فيها عدي شانكار الذي يعدّه الفنان حسين أول راقص باليه هندي في العصر الحديث، وتتناول اللوحة الأخيرة رقصة قديمة من إقليم كيرلا.
يتناول العمل الخامس وسائل النقل المختلفة باعتبارها كناية عن رحلة الحياة. أما العمل السادس المعنون بـ(الثالوث الهندوسي)، فيتناول في اللوحة الأولى نهر الكنج الذي يتدفق من السماء إلى الأرض، لكن شيفا يكبح جماحه ويمنعه من تدمير العالم. فإذا كان براهما يمثل الخالق فإن فيشنو هو الحافظ في اللوحة الثانية، وإن شيفا هو المدمِّر في اللوحة الثالثة. في العمل السابع يعتمد على الشاعر الهندي طاغور، ليثبت أن لغة الحجر قد تجاوزت لغة الإنسان وانتصرت عليه. أما العمل الأخير فيركز فيه حسين على الحياة الأسرية التي استوحى بعض جوانبها من أفراد أسرته على وجه التحديد.
وتأثر بالأحداث التي عاصرها طوال حياته التي امتدت لخمسة وتسعين عاماً، منها الحرب العالمية الأولى والثانية، وصور في لوحاته بيئة الهند وطبيعتها وفولكلورها بأسلوب حداثي فريد يجمع بين البساطة والجماليات البصرية، التي يتواصل معها الإنسان العادي والفنان على حد سواء. اشتهر حسين بإصراره على عدم انتعال الحذاء، والمشي حافياً تحت أي ظرف كان حتى في المحافل الرسمية، لقناعته أن تواصله المباشر مع الأرض يمنحه الطاقة والقوة والصحة.

ذو صلة