مات أبي وترك لنا طبق فخار أبيض كالحليب، تنقله أمي بحساسية ورهافة طفل رضيع يوشك أن ينكسر، تقدمه وتحته قطعة من حرير ناعمة، ولا تضع داخل الطبق سوى عسل النحل المصفى، تحضر الفطائر الدافئة وتظل تنظر لها ثم تدمع عيناها دمعة وحيدة وتأخذ قطعة صغيرة من الفطيرة وتغمسها في العسل وتضعها على طرف لسانها في حذر، وما إن تتذوق طعم العسل الحلو حتى تنهمر دموعها فتحتضن صورة أبي.
صباح الجمعة، يستيقظ أبي مبكراً، يغتسل ثم يضع الفطائر على النار الهينة ويتحسَّس رقائقها بطرف إصبعه، وعند درجة دفء معينة يرفع الفطائر من فوق النار ويغطيها بطبق زجاج شفاف، وبرفق يستخرج طبق العسل الأبيض الفخاري كالحليب من العلبة القطيفة، ويقطر في الطبق العسل كأنه يصنع أشكالاً يرسمها ولا يراها غير خياله، وفي المنتصف نرى كلمة أحبك مكتوبة بإتقان غريب بخط الثلث.
يوقظ أمي برفق فيجلسان على الأرض، وأنا وأخي جانبهما نتابع الطقس الحميم، يقسم أبي الفطيرة نصفين، يعطيها النصف الأكبر، ثم يقطع جزءاً كمثلث من الفطيرة ويغمسه بالعسل من منتصف الطبق، يمسح كلمة أحبك بالفطيرة ويقترب بحنان رهيف من فمه وكأنه هو من سيتذوق العسل، ثم يضع الفطيرة المغموسة بكلمة أحبك في فم أمي الصغير، تنظر لنا وهي تلحس حلاوة العسل مغمضة العينين ويحمر وجهها.
تأخذ أمي الفطيرة الأخرى وتقطعها بالتساوي بيني وبين أخي، آخذ قطعة من الفطيرة وأضعها في فم أخي، فنبتسم ونضحك، يضحك أبي ويقول: (صباح عسل) لكننا نصمت حين يبدأ أبي في قراءة القرآن وتصفح الجريدة، ثم يحتسي قهوته السادة وتظل أمي تروح وتجيء في البيت تصنع طعاماً يحبه أبي كثيراً، حين يتذوقه يقول: (هذا أحلى من العسل) تقول أمي: (عسلك أحلى) وننام جميعاً وفي حلوقنا لذة العسل المصفى.
هذا الطبق الأبيض الفخار الناصع كالحليب أخذه أبى من والدته، وقالت له قبل أن تموت: (لا تأكل فيه غير عسل النحل الحقيقي) فتبسَّم لها وكأنه يعرف سر الطبق.
يوم الجمعة، ألمح دموع أمي، أذهب إليها وأقسم الفطيرة نصفين وأقطع قطعة كمثلث لكنني أخشى أن أضعها في فم أمي فتبكي، أوقظ أخي وأعطيه فطيرة كاملة يأكلها بسعادة ويخرج بسرعة لعمله، أنظر في عين أمي فأرى دمعة محبوسة، تقطع قطعة كمثلث وتغمسها في العسل أضع قطعة الفطير المثلث في فم أمي حتى تضحك، تأخذني جانباً وهي تهمس لي: (الطبق لك، لا تأكل فيه غير عسل النحل الحقيقي) فأبتسم لها وكأني أعرف السر، وأنظر لصورة أبي فأرى الابتسامة على وجهه كأنه تذوق العسل تواً.