أنتظر مجيء النهار لأتسلل من مخبئي، أثناء بحثي اليومي عنها بين خرائب يغطيها رماد بارد؛ عثرت على امرأة أربعينية برفقة طفلتها المحتضرة في وادي الوطر، دلّني عليها أحدهم. ألفُّ يدي وساقي ووجهي بخرق ولواصق وأرتدي أربع صدارٍ طبّية فوق ثيابي لأدفئ عظامي، أكتسب خلقة مهرجي الدمار، كنا نرتدي قطع ملابس عديدة وقطع بلاستك وأي خرق ظناً منّا أنها ستقينا الإشعاعات القاتلة.
منظري يثير انتباه (الأحياء) أحياناً فتلاحقني الخطى.
أستعيد ذكراها لأتحمّل آلام قروحي وأضلعي المحطّمة وشيخوخة أيامي، صاعقة الهلع اندفنت عميقاً تحت جلدتي منذ ذلك الفجر النووي، كانت المصادفة توفّر لي قوتاً، اصطادوا ما تبقى من كلابٍ وقططٍ وحيوانات أليفة مصابة بالتلوّث. قواضم خلدت في أعماق الأرض، متجنّبة الفناء؛ تعاود مدار حياتها، لتواجه شتاءً رمادياً قارساً وأعين الصيادين الذين يتربصون بها. ازوّدهم بدهان القروح واليود في مقابل بعضها.
كنت ألتقيها على طريق الوادي، حيث تتراكم الآن أنقاض الجسر المحطّم. تركز البشر هنا من جهات (المعمورة)، صغار بأثواب بيض، عربات مستعملة، نساء منقّبات، سود وخلاس وآسيويون، كأنما جلبتهم الريح اللافحة، ما زلت أشمّ رائحة عرق أجسادهم، أستعيد نفورها من الروائح الغريبة. فذكراها دفينة أعماقي ككائنات الأرض الناجية، ولم تنِ تطلّ من حين لآخر بحثاً عن الدفء، أقمت في بلدها وأطلت بقائي حتى تعرّفت عليها قبل انفجار العالم. مدننا لم تزوّد بملاجئ نووية، لم نواجه فناءً عاماً، كنا نستسلم لبريّتنا العارية، نفنى معها ونستعيد حياتنا في أطوار أبديّة.
منذ سنوات، في لحظة جميلة وعبثيّة سجّلنا اسمينا، ضمن آلاف الأسماء، على لائحة مركبة فضاء في رحلتها إلى الكوكب الأحمر.
تساءلتْ بتهكّمها المعتاد: يا حالم! ولو أتلف الإشعاع الكوني تلك الشريحة؟
أجبتها: في هذه الحال، يا ليت تمتزج حروف اسمينا قبل أن تمحى!
شعرنا أننا المسافران الخياليان الوحيدان في تلك الرحلة، لم نحسب أن لويحظة نووية ستنسف الأرض وتسحقنا، وأن اسمينا سيحملقان كحروف هيروغليفية بكماء إلى كوكب محترق.
كنا نلتقي في المقهى الإيطالي، جمعت بيننا عاطفة غامضة، إذ كنت أكبرها بالسن. لكننا غفلنا عن التناقض الحاد للحياة بيننا في مدينتها المفتوحة على وديان ورديّة جافة وغدران شتائية دافقة وغصينات شجيرات الطرفاء. تطلبُ كأس عصير مشترطة ملأه بمكعبات الثلج، صوت تكسّر الفصوص بين أسنانها يبعث فيّ القشعريرة، كأنما الثلج يلسع عصب أسناني فأنكمش ويضحكها منظري. تقلّني بعربتها الرياضية، متجنّبة كشف هويتها بارتداء نقاب. تبادلنا قبلة ليليّة في حلم أفزعني، كانت شفتاها قارستين، ولم يزل صقيعهما يلذع روحي. لم أخبرها بحلمي، ومرّة واحدة مضينا بعيداً، تسلقنا جرفاً صحراوياً هائلاً متطلعين نحو الكوكب الأحمر.
ما خلته في البدء أنها تتسلى بقضم الثلج بين أسنانها كان بالأحرى تكريساً وجودياً لطفولة لا تفارقها. اعتقدنا أن صحارينا بمنأى عن الدمار، قبل ساعات من القيامة النووية اتصلت بي، أصغيت لتهشّم الثلج وهو يمتزج بصوتها، ما أفزعها انحدار العالم المتسارع نحو الهاوية فلم تصدّق أن النهاية وشيكة، اتفقنا على اللقاء نهاراً في المقهى الإيطالي لكن الانفجار لم يمهلنا.
ما زلت أبحث عنها عالقاً في لا زمن القيامة النووية، أوهم نفسي بأنها على قيد الحياة، فالعصف العظيم كنس حيّها وأذراه.
(نجوت!) لأنني دُفنت في قبو تحت عشرين طابقاً في مختبر للأدوية، ولبثت فزعاً فترة طويلة، صمتت الاتصالات وانقطعت عن العالم. في أعماقي ندم من عدم الخروج بحثاً عنها في لحظة جنون. لم يكن للحبّ الفتيّ أن يقاوم الاستعار الكوني العظيم، كل شيء يقرّسه هباء صقيعي فيهرم مع الوقت، الأجساد والدماء والخرائب.
لا أغامر بالخروج ليلاً لكن اشتياقي لها يبطل حذري أحياناً فأتسلل هائماً. ألتقي بعضهم، جوقة تائهة، حواسهم المحترقة مرهفة نحو ما تضمره الخرائب. في ليلة رأيت أحدهم يقود حصاناً لا أعلم من أين جلبه، التفّوا حوله مهللين لوليمة موعودة، كان الحصان هزيلاً محترقاً، هيكلاً عظمياً بالكاد يجرّ خطاه.
قالوا وأفواههم ملتوية: سمعنا همهمة أو صوت بوم أو طائر مغرّد، أتعود الحياة أم تراه وهماً؟ هل سنُنقذ أم أننا تُركنا لمصيرنا؟
لم يحفلوا بي لكنهم سألوني: بعدك تبحث؟
حدسوا أني أبحث عن امرأة، أيقظتُ ذكرياتهم مثل نبضات كهرومغناطيسية تسري في الجو. تلمع خرز عيونهم وسط محاجز متسلّخة، لحظة تعاطف تنسيهم مقتهم وفزعهم من رؤية خلقنا المحطمة.
أبحث عنها بينما يبحثون عن طائر أو جرذ، وهم يقضمون حبل أيامهم، تختلط الصورتان: طائر حبٍ ملوّن وبرعم ورد في مقهى، وقارض ليلي هارب.
الموت يتآكلني ببطء، تزوّدت بعلب دهان أقايضها بحياتي، فبانتظار نهايتي البطيئة كنت أخشى أن يفتك بي شخص يائس.
بينما دلّتني خطاي على امرأة أربعينية، غالباً ما أجدها تلتهم قطع الحجارة، تسدّ جوعها بالتوق إلى مذاق التراب، لم تكن حالتها سيئة، كان ماءٌ مزرقٌّ يغمر عينيها، تطفو حدقتاها في الماء وينساب دمع على خديها، لكن طفلتها احترقت، قالت إنها هوت في بئرٍ لحظة الانفجار وغمرها الماء، لبثت ليلة غريقة الماء، ورأت حوريّة تشعّ محلقة في الفضاء، سحابة متوهجة ولفحاً قاسياً، تذكرت ابنتها وتسلقت بقوّة ساعديها.
كنت أهبط مع استدارة سلم ضيّق مسحت الأقدام حجارته، تآكل الإسمنت، وبرزت حصيات ناعمة تجمّدت في حواف الدرجات، السلم تلويه عطفة متهدّمة طالما أشعرتني بالخوف من السقوط إلى قرار مظلم. ألتقيها في العتمة الباردة، أجلب للصغيرة التي حجبت الضمادات والخرق وجهها علاجات لا نفع منها، أضمّخ جسدها بدهاناتي، تراقب المرأة طبعات لفائف قدمي التي ترتسم على البلاط، مشوّهة، وتهمس: لن تنجو!
تقول إنها مهما نظّفت الأرض فالأتربة تتراكم، في الصيف ينزل الغبار، لكن هذا غبار مخيف يشعّ من جسد الصغيرة، حال اللون الأبيض للحيطان وتترّب، لا شيء في الغرفة إلا أنفاس علك المرّ الذي تحرقه لتنقية الهواء، ولا شذى يفلت من سحابة الغبار.
وفي النهارات أهيم في المدينة القديمة بحثاً عن شمسها، أعرف خرائب المقهى الذي ضمّنا يوماً، رائحة الوحل تنعشني، تتسلل من شقوق الانجماد، تنبهني لصراع بدأ في الأعماق بين البذرة والحمأة، أشبه بتطهّر النفس، لكنه تطهّر لا يدعمه جسم أرضي قوي.
بدا تعلقي بها مثل حلم طفولي يسبق الموت، هذه الرغبة بسماع مضغها، خرخشة ورنين المكعّبات بقعر إناء معدن في وقت أتخيّلها ولا أراها. فتاتي البعيدة، ينأى بها امتداد أفقي عميق، يمنحه صوتها شكلاً عمودياً آتياً من السماء عبر أبراج عملاقة محطمة. كان صوتها يستثيرني فتتعرّق كفّاي، كأنما رغبة دفينة تنبعث فجأة وسط الفراغ فأنتفض لكبحها، لكن وجودي لا يتحقّق إلا بهذه الرغبة.
زحفت أصابعي المحترقة لتلمس وجه المرأة الأربعينية، لم تجفل، تطلعت إلي من أعماق يأسها، قبّلت يدي، وضمّتني بحنو، وقد تذوّقت طعم التراب ممتزجاً بأنفاسها. وفي غضون بضعة نهارات كنا ننظر صامتين لطفلتها التي فارقت عذابها، لم تقوَ على تحريك الجثة الصغيرة حتى مجيئي. حللت الخرق عن وجهها متهيئاً لغسله بشطفة ماء قبل دفنها فراعني ما رأيت، من وراء الخرق والتسلّخات أطلّ وجه فتاتي، رمقتني عيناها الصغيرتان كفصي ثلج، فأرتان خلدتا في أعماق حبّي وندمي.
عبرت الانقاض هارباً.
أصغي إليها، مراراً تعيد موعد اللقاء القريب، وفي وحدتي استسلمت لذلك التجرّد وحطمتني نظرتها، مصغياً لصوت رنين بارد.