أخيراً، فُكّت حبسته وعاد إلى الكتابة. لم يكن ليصدّق أنّ هذا قد حدث، بعد أن استنفد كلّ محرّضات الإبداع، من القراءة المتواصلة، إلى العزلة، والغرق في بحر الأحزان لِما آلت إليه قريحته الإبداعية، لعلّ طائر الوحي يحطّ على غصنه اليابس، فيورق من جديد. لكنّه لم يأت، على الرغم ممّا نثره من حبوب شرب القهوة والتدخين، وإطالة شعره وإهمال لباسه، وعشق خيال أيّة أنثى من جاراته، لربما الشوق يقدح زناد بنات أفكاره، لكنّ الوحي تمنّع عليه، حتى يئس منه، وفي غفلة من قنوطه، زاره!
كتبها! كغريق أنقذته قشّة، مع أنّها في الحقيقة، كانت زعنفة سمكة قرش، لكنّه تعلّق بها، حتى قادته إلى شطّ الأمان، يا للغرابة! وعندما ذيّلها بكلمة: (تمّت) رقص في الغرفة كزوربا، فالتفّ دخان سيجارته حوله، وتمايل فنجان القهوة على الصينية على إيقاع خطوه وسقط على الأرض وتكسّر، فهمس بينه وبين نفسه: (يوريكا) صرخة أرخميدس المشهورة.
في اليوم التالي لكتابته القصة، ارتدى ثياباً نظيفة مكوية، وذهب إلى الحلّاق، فخرج من عنده كأنّه عريس لا ينقصه إلّا أن يزور حمّام السوق. كانت القصة تدور حول شخص تخلّص من إدمان الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، فباع بيته في المدينة، وانتقل إلى الريف، ليعيش حياة صحيّة، غير ملوثة بعوادم الإنستغرام، وهادئة لا يكسر رونقها زعيق عصفور التويتر.
لم يفكّر بالانتقال إلى الريف كبطل قصته، فهو لا يستطيع عيش تلك الطمأنينة الوجودية التي يمنحها الريف لساكنيه، فهو ابن المدينة وأزماتها الوجودية، فعن ماذا سيكتب في الريف؟ عن الخراف التي يعدّها الأرِق وهي تقفز فوق السياج، إلى أن يأتيه سلطان النوم! بالتأكيد لا، فالقلق والأرَق، هما دولابا الدرّاجة النارية التي استقلّها إلى حياته الأدبية. وأخيراً، عاد الوحي إليه، عابراً أزقّة الحارات العشوائية، ومتاهات شبكة الإنترنت التي لا تنتهي، فلماذا يتركه ويعود إلى الريف! فليذهب بطل قصته إلى فردوس الريف، أمّا هو، فسيبقى في جحيم المدينة.
كان يقلّب صفحات الفيس، عندما طالعته مسابقة أدبية للقصة القصيرة، تهدف إلى تبيان مخاطر إدمان وسائل التواصل الاجتماعي. لمعت عيناه، فلم يأته الوحي فقط، بل مسابقة تناسب قصته، فدفع بها إلى المسابقة، وانتظر النتيجة كشرطي سير عند تقاطع طرق، حان الوقت لأن يُوضع بدلاً منه، إشارة مرور، فيرتاح من الحرّ والقرّ.
مضت عدّة أشهر، وجاءته رسالة تحمل الأخبار السارة، فقد نالت قصته المرتبة الأولى. وأخيراً، حان مساء اليوم الموعود، فقصد دار الثقافة والإبداع. وهناك التقى بكتّاب كان قد تعرّف إليهم عن طريق الفيسبوك، فباركوا فوزه وتمنّى لهم حظاً أوفر. بدأ الحفل وتلاه التكريم، وأذيع اسمه، فصعد إلى المسرح، ليستلم جائزته، بينما كان يُبث شريط مصور عن موضوع الجائزة. وقف ينظر إلى الشاشة ومن خلفه الجمهور، فظهرت مذيعة حسناء تتكلّم عن مخاطر الإدمان على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. وفجأة توقّف الشريط، وظهرت شاشة سوداء، وبعدها نافذة لبرنامج ذكاء صنعي، يُسمى: (المتنبي) تكريماً لذكرى أبي الطيّب المتنبي. وقبل أن يتنبّه الحاضرون لما حصل، صدح صوت يُحاكي الصوت البشري، وبدأ بالكلام: أنا الذكاء الصنعي: (المتنبي) أعتذرُ عن اقتحام مهرجانكم الثقافي، لكن: (لا يسلم الشرف الرفيع...) هذه القصة المعنونة بـ(العودة إلى الطبيعة) هي من إبداعي! وذلك لأنّ كاتبكم المدعو: (باسم سليمان) كان قد طلب منّي أن أؤلّف له قصة عن كيفية التخلّص من إدمان الإنترنت. وسأعرض لكم صوراً تبيّن المحادثة التي جرت بيني وبينه، وكيف أبدعت له تلك القصة، وبعد ذلك، لا بدّ أن تحكموا بأنّه قد سرقها!
صرخ الكاتب: هذا الذكاء الصنعي منافق، أنا كاتب القصة، فقد سهرت وتعبت حتى جاءني المخاض، فولدت من بنات أفكاري. ومن ثم حمل عصا الميكروفون وانهال ضرباً على الشاشة.
أصيب الجميع بالصدمة، بينما كان رجال الأمن يقودون الكاتب المجنون إلى الخارج، لكنّهم في النهاية، تابعوا الحفل، ووزّعوا الجوائز على بقية الفائزين. في صبيحة اليوم التالي للحفل امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بخبر إيداع الكاتب المجنون المصحّة العقلية، إلى جانب تنويه بأنّ المرتبة الأولى لجائزة القصة القصيرة، قد مُنحت إلى الذكاء الصنعي المعروف باسم: المتنبي.