مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

حكايات الولد الجن

- 1 -
كانت المياه تسقط من ارتفاع شاهق فتصنع شلالاً، وكانت تصدر صوتاً قوياً كصوت الرعد. أهل البلاد يعيشون على السفح الضيق، وأخبرهم الحكيم العجوز بحادثة الطوفان التي شهدها بنفسه صغيراً، فشعر الناس بالخوف، حتى تيبست جفونهم من قلة النوم، ومن شدة الخوف، ماذا لو غافلهم الشلال وبلغ مضاجعهم؟
وحده الولد الفتي هو من كان طليق اللسان ومفتوح العينين، قادراً على أن يأمرهم بلسانه بينما يحدق في عقولهم، فأطلقوا عليه لقب (الولد الجن)، وزادت مغامراته وأوامره وأفكاره الغريبة، شاء أن يصعد الجبل ويشيد سداً في طريق الشلال، فلم يتردد الرجل الحكيم أن يقص بعضاً من أسرار الشلال لعل الولد يعتبر.
قال ﺇن الشلال هو ابن سحابات السماء غليظة القلب البعيدة، كلما غضبت تصنع شلالاً، عاد وأقسم على صدق سريرته ونقائها، بأن الشلال بسبب بكاء البعض من سكان السفح الضيق، وقد ضاقت الأرض عليهم، فيصعدون الجبل ويبكون بحرقة وبكمية تصنع شلالاً.
لم يقتنع الولد الجن، فكر في طريقة يعرف بها الحقيقة، التي سيعرفها حتماً لو نجح في الصعود إلى أعلى، وبدأ المحاولة، حتى كان يبتكر وسائل أدهشت كل سكان السفح من حوله.
في البداية نهض واقفاً، بدا واثقاً في عافيته وفكرته، ظن أنه سوف ينجح لو علق طائران كبيران على ذراعيه، يطيران به ﺇلى أعلى، ﺇلى القمة حيث منبت الشلال.. فعل وفشل.
لم يشعر باليأس، قاوم ضحكاتهم الساخرة، مرة أخرى ظن أنه سوف ينجح، لو علق قاربان صغيران في قدميه، يسبحان به فوق مياه الشلال إلى حيث منبته.. فعل وفشل.
غلبته دموعه وعلا صوت بكائه، فشعر الجميع بالشفقة عليه، والتفوا حوله وهم يتضرعون للسماء أن تلهمه فكرة يحقق بها فكرته، ولا يهم ما يحدث من بعد. بمرور الوقت بدأ الولد الجن يفكر بهدوء أكثر، اكتشف أنه لو صعد الجبل الصخري صخرة بعد أخرى، سوف يبذل مجهوداً أكبر، ووقتاً أطول، لكنه سوف يصل إلى القمة. وهو ما حدث فوراً.. فعل ونجح.
ومنذ ذلك اليوم البعيد، أصبح وحده بين كل سكان القرية الذي يعرف سر الشلال، عرفه ولم يبح به، فلما ألحوا عليه أن يخبرهم، قال بصوت مرتفع:
(من يشأ أن يعرف، عليه أن يصعد معي في المرة القادمة)

 - 2 -
مع شتاء هذا العام، طغى الشعور بالبرد، تغلب على كل محاولات الصغار، تملؤهم الرغبة في التدثر بمشاعر الدفء وهم تحت شمس الظهيرة.
اقترح الولد الجن على أصدقائه من صبية القرية والصبايا اقتراحاً، لم تخطر فكرته على ذهن بشري من قبل وربما مستقبلاً أيضاً. ولأنها مثيرة وجديدة وافق الجميع على تنفيذها، منذ تلك الساعة أصبح شعار الجميع، لن نترك للشمس الفرصة لأن تغيب ثانية.
فأمر الولد الجن الصبايا ونساء القرية بصنع ضفيرة طويلة جداً من شعرهن، صنعوا منها حبلاً طويلاً جداً وقوياً.. لكنه خذلهم، فلم يكن طويلاً بما يكفي، كان الطريق إلى قرص الشمس أطول منه.
بسرعة اقترح الولد الجن اقتراحاً بديلاً، بسرعة وبكل النشاط والهمة، صنعوا فخاً حديدياً كبيراً جداً، صنعوه من كل حدائد القرية، وضعوه فوق الربوة المرتفعة.. لكنه خذلهم. ظل يرصد قرص الشمس حتى اختفت خلف الربوة الضخمة، لم يكن ضخماً بما يكفي، كان قرص الشمس أضخم منه.
راودته فكرة جديدة وخبيثة، نفذوها بلا تردد ثقة في أفكاره، خلعوا ملابسهم ﺇلا من السراويل متعددة الألوان، صنعوا ستاراً ضخماً لم تعرفه القرية من قبل، كانت فكرة الولد الجن بسيطة وهينة، لو وضعوا الستار الضخم عند الأفق البعيد ضمنوا اصطياد قرص الشمس قبل أن يغرق هناك. فور رحيل قرص الشمس ﺇلى هناك، أظلمت السماء والأرض، وبقي الستار القماشي على حاله، لم يخطر ببالهم أن قرص الشمس هكذا مراوغ وهبط بعيداً.
ابتكر الولد الجن فكرة جديدة، فور أن تساءل: ماذا لو نجح كل من رفقاء الجزيرة من حوله، في قنص قطعة ولو صغيرة جداً من قرص الشمس، في المساء يجمعونها معاً، يصنعون قرصاً جديداً للشمس. ولما غربت الشمس فى تلك الليلة ابتسموا وهللوا مقدماً، ظنوا أن فكرتهم الخبيثة هذه المرة لن تفشل. بسرعة وضعوا أحمالهم، بدت الأرض كما كانت فى الظلمة، انتظروا طويلاً، بينما غاب وهج الشمس، ولم تأتِ الشمس ولا بجزء منها!
غلبتهم مشاعر البرودة، جمعوا أحزانهم والغضب، تقدمهم الولد الجن، وجلسوا حول كبيرهم (حكيم القرية)، فابتسم وقال ببساطة:
لأن الشمس أكرم منكم، رفضت أن تملكون ولو جزءاً منها، ذهبت إلى النصف الآخر من الكرة الأرضية، لينعم بها أناس مثلكم بالدفء!

 - 3 -
كان الولد الجن يقيم في الدار الجميلة فوق جبل ضخم في الصحراء، عندما كان يشعر بالعطش، يمد ذراعه، يقطف جزءاً من السحابة الممطرة ويرتوي.
ولو شعر بالجوع، يقطف من ثمار أشجار الفاكهة الباسقة من حوله ويشبع.
وكانوا يشهدون له قوته وذكاءه، حين يعدو يبدو كما الغزلان، من يرصده يراه خفيف الحركة نشطاً مثل القردة، وأيضاً أقوى مثل الخرتيت.
لكنه الآن يشعر بالوحدة، فالزمن يمر بطيئاً مملاً جداً، ولا يجد من يتحدث ﺇليه!
راودته فكرة، ماذا لو طلب من الجبل الضخم أن يبحث معه عن حل لمشكلته؟
ابتسم الجبل وقال له:
(عليك إنجاز مهمة قاسية بأن تتنافس مع قمتي، هبوطاً وصعوداً فوق سطحي).
فوراً بدأ السباق المثير..
هبطا معاً من نقطة بداية واحدة، نجح الشاب أن يصل إلى سفح الجبل، والعودة قبل قمة الجبل. عندما وصل الولد الجن، شعر بسعادة غامرة. كان يمكن أن يبقى هكذا سعيداً لفترة طويلة، لولا أنه لم يجد داره، لولا أنه تذكر أن الدار الجميلة التي يقيم فيها، كان قد شيدها فوق قمة الجبل التي قهرها منذ قليل!

 - 4 -
ما حدث جعلني أبحث عن رحم أمي، برغبتينا نجحت..
ظلمات ثلاث تحتويني، دم من سرتي يمر بكبدي، بات لساني عضواً عاجزاً.. فسعدت بحالي.
الناس التفوا حول بطن أمي المنتفخة، يسألون وأجيب:
(في الظلام يا سادة، نرى الأشياء سواء)
بدأت أسري عن نفسي، وأمارس لعبة الرسم في الهواء.. زهقت.
الناس حول أمي يسألوني، وأجيب:
(إلى متى سأظل هكذا؟ مللت حالي!)
بات السؤال: كيف سيكون المخاض؟
الناس حول أمي يسألوني، فأجبت:
(أنا حمل غير عادي.. لذا سيكون ميلادي غير عادي،
فقط عندما يحين الحين.. ساعدوني)

ذو صلة