يظل يتأملها مكرراً على نفسه ذات السؤال:
_ لماذا تقع مثل هذه الصدف؟ ألتنكأ جراحنا الغائرة؟ وتستنهض ذكرياتنا الموجعة؟ أم لتواسينا ولو قليلاً، برؤية أشباه أحبابنا الغائبين الذين حكمت الظروف والأقدار علينا بفراقهم؟
لا أستطيع رفع بصري عنها، وأتساءل:
_ هل انتبهت لي ولنظراتي الحادة التي تلاحقها منذ أن دخلت مع باب المقهى؟
هكذا هو حاله منذ رآها لأول مرةٍ قبل يومين.
واليوم جاءت مرةً أخرى لنفس المكان.
تهلل وجهه بِشراً وهو يحدث نفسه:
_ يا لمحاسن الصدف.
يحب الجلوس في هذا المقهى تحديداً، لما يتمتع به من جلساتٍ خارجية وداخلية جميلة ذات إطلالات مختلفة، فمن جهةٍ يطل على الشارع المزدحم بالمارة الذين يقطعونه سيراً على الأقدام فقط، حيث لا يُسمح في هذا الشارع التاريخي بمرور وسائل المواصلات، ومن جهة ثانية يطل على النهر المجاور للمقهى، ومن جهة ثالثة يطل على حديقة المدينة.
يتأمل الفتاة بانبهار تام.
لا يكاد يصدق عينيه، ولولا علمه بأن ذكرى في مكان آخر بعيد جداً عنه الآن، لأقسم أنها هي.
صبية يافعة الشباب بشعرٍ أسود وخصلات حمراء في أسفله، وعينين عسليتين، وجسد ضئيلٍ كالدمية.
يطلق تنهيدةً عميقةً سمعها الشاب الجالس بالقرب منه.
يطأطئ رأسه خجلاً، وينظر إلى هاتفه في محاولةٍ منه للتهرب من نظرات الشاب.
لكنه سرعان ما يرفع رأسه عندما يسمع ضحكاتها تتعالى برفقة الشاب الذي تجالسه.
يتأمله متسائلاً:
_ ترى هل هو حبيبها؟ هل يستحق فعلاً الفوز بقلبها؟
ويردف، آمل ألا يكسر قلبها يوماً، فهي تبدو كالملاك.
فجأةً تلتقي عيناه بعينيها.. يشعر وكأن الزمن قد توقف لبرهة.
يود لو يستطيع الذهاب إليها وضمها إلى صدره، لكن حتماً ستتهمه بقلة الأدب والتحرش أو ربما الجنون في أفضل حال وهو يبدو بعمر أبيها.
يظل يصوب نظره نحوها بدون شعور منه، بينما دقات قلبه تتسارع، ويداه ترتعشان.
يقطع هذا المشهد العميق بينهما النادل الذي أنزل له كوب القهوة الثالث منذ أن جلس.
أقسم أنه لن يغادر المقهى حتى تغادره شبيهة ذكراه الغالية.
فإن عزّ لقاؤه بها هناك، فها هي شبيهتها هنا تخفف عنه نوبات الحنين التي تكاد تفتك بقلبه الخمسيني المتعب.
تنهض الفتاة للدخول إلى حمام المقهى لتعدل من مكياجها كما سمعها تقول للشاب الجالس معها.
تمر من أمامه متهاديةً في مشيتها كغيمةٍ بيضاء غاية في الرقة والجمال، فجأة تتعثر وتكاد تسقط أرضاً لولا أنه وبحركة خاطفة منه كالبرق، نهض وأمسك بيدها، جاذباً إياها للأعلى قبل أن تقع.
أخذت نفساً عميقاً وهي تنتفض من هول الموقف، بعدها انتبهت للرجل الذي لا يزال ممسكاً بيدها بكل قوة، وعيناه تكادان تخترقان وجهها.
تراجعت للخلف وسحبت يدها بهدوء، مبتسمةً بتوتر، قائلةً:
شكراً لك سيدي الفاضل، ممتنة لتصرفك هذا.
أفاق من صدمة الموقف، ليرد لها الابتسامة بمثلها قائلاً:
العفو آنستي الجميلة، لم أفعل إلا الواجب.
في هذه اللحظة كان الشاب المرافق لها يطوقها بذراعه ويرافقها عائدين إلى مكان جلوسهما، مناولاً إياها كأس ماء، ومحاولاً تهدئتها.
بعد قليل عادا للضحك من جديد، ويبدو أنهما يضحكان على الموقف الذي حصل لها قبل قليل، ظهر ذلك من حركتهما وهما يصفان المشهد.
بعد مضي نصف ساعة نهضا مغادرين المقهى.
ظل الرجل يرقبهما، وهما على وشك الخروج، وقد تجاوزاه.
لكن عادت الفتاة لتكرر شكرها له، وأعطته رقم هاتف والدها مدير المستشفى الخاص الكبير في المدينة، وهي تقول:
_ أي خدمةٍ لك في المستشفى ستقضى لك بمجرد إظهارك لهذا الكرت، فعليه ضمنت عبارة (خدمة خاصة) واسمي.
ابتسم الرجل لها، معبراً عن شكره وامتنانه، قائلاً:
_ الحقيقة أني لم أفعل ما يستوجب كرمك الكبير هذا آنستي.
أنا أشكر لطفك.
غادرت، بينما شعر بأن قلبه قد غادره معها، فلم يعد يطيق غيابها عن نظره ولو للحظات، فكيف إن كان إلى الأبد؟! وهو جاء لإنهاء معاملة له في هذه المدينة البعيدة عن سكنه، وقد لا يكرر الزيارة مرةً أخرى.
سالت دمعةٌ حارة على خديه، وهو يتذكر ذلك اليوم الذي ودعته فيه ابنته الوحيدة ذكرى، خارجةً برفقة زوجها، وبينما كانا في السيارة تشاجرا بسبب رفضها ترك المدينة التي يُقيم فيها والدها، وبقاءه وحيداً، بينما هو يريد منها مرافقته للخارج لاستكمال دراساته العليا، وبعدما احتد النقاش بينهما ارتطمت سيارتهما على حين غرة في عمود إنارة على جانب الطريق ما أدى إلى اشتعال النيران في السيارة بمن فيها.
استدار خارجاً، ورفع كفه ليمسح دموعه، لكن رائحة عطر الفتاة كانت ملتصقةً بيده فأخذ يشمها ويبتسم وقد أغمض عينيه وغدا في حالة اتصالٍ روحي مع شبيهة ابنته الراحلة ذكرى.