السياسة والحالة الاجتماعية والنفسية تدخلّت به: أتاتورك أمر بمنعه في تركيا لأنه يرمز للحقبة العثمانية، وثورة عبدالناصر في مصر منعته لأنه يرمز للإقطاعية، وفي لبنان خلال مرحلة الانتداب الفرنسي، أصبح ارتداء الطربوش رمزاً للانتماء السياسي، وفي السودان كان ارتداؤه من قبل ثوار حركة 1924 إلزامياً تضامناً مع ثورة سعد زغلول، وفي عامي 1925 و1926 حصلت معارك في مصر بين الأدباء والسياسيين في موضوع ارتداء الطربوش أم القبّعة، فتدخّل الأزهر وحرّم بفتوى شيخه لبس القبّعة، فيما انحازت جمعية الأطباء إلى القبّعة واعتبرت الطربوش لباساً غير صحّي؟
تتباين الروايات حول الموطن الأصلي للطربوش (غطاء الرأس الشهير) الذي دخل البلاد العربية من تركيا خلال الفترة العثمانية، فالبعض يؤكد أنها (النمسا)، ودخل إلى تركيا فيما بعد، وهناك من يقول وينسبه لبلاد المغرب العربي، فيما يؤكد آخرون أنه بدأ منذ 300 سنة بالظهور في بلاد اليونان وألبانيا، واستقر في تركيا في ظل الدولة العثمانية، وبالتحديد في عهد السلطان سليمان القانوني، ومع صدور فرمانات تعميم الطربوش على الرسميين من أبناء السلطنة، فقد تهيبه الكثيرون لأنه زي بروتوكولي إلى أن أصبح زياً شعبياً. ويُقال إن الطربوش كانت تستخدمه نساء الألبان واليونانيات، ويروى أن أحد الولاة العثمانيين كان في مجلسه وحوله جوارٍ، فقامت إحداهن وهي ألبانية ترتدي الطربوش بوضعه على رأس مولاها مداعبة، فراق له ذلك، وانتقل الطربوش من النساء إلى الرجال إلى أن أصبح لباساً رسمياً، فطالب المدرسة الإعدادية والتجهيز إذا لم يلبس الطربوش كان يمنع من دخول المدرسة، وكذلك الموظف في المدارس الرسمية.
بينما يُرجع الباحث السوري نضال رستم أن الطربوش أصله زي سوري كنعاني نشأ في مملكة أوغاريت على ساحل البحر الأبيض المتوسط، حيث اكتشف في منحوتاتها على رؤوس الآلهة والكاهنات والملوك والأميرات، وظلّ منتشراً في كل البقاع الفينيقية وما جاورها في آرام العليا والوسطى. وكلمة طربوش مؤلفة من قسمين (الطرة) وهو ما يوضع فوق الطربوش من خيوط (شراشيب) ذات لون أسود، و(البوش) وهو الفراغ، والطرة فوق البوش تعني الطربوش. وترجع الموسوعات الحديثة ومنها (ويكيبديا) أصل كلمة (طربوش) إلى اللغة الفارسية، وهو (سربوش)، أي غطاء الرأس، ثُم حُرِّفَتْ إلى (شربوش) وبعدها إلى طربوش. وقد دخل الطربوش بلاد الشام في الفترة العثمانية مع الأتراك، وانتقل إلى مصر بعد وصول إبراهيم باشا إلى أرض الشام في حملته المشهورة أواسط القرن الثامن عشر فنقله إلى مصر.
ولأن للطربوش دوراً تاريخياً ووظيفة رسمية واجتماعية فقد تدخلت به السياسة والحالة النفسية للمجتمعات، فقد ألغت ثورات عديدة الطربوش كونه يرمز إلى حقبة تاريخية قديمة أو إلى الإقطاع، فأثناء ثورة كمال أتاتورك في تركيا أصدر قراراً بعدم اعتمار الطربوش، تعبيراً عن محاربته لكل مظاهر الإمبراطورية العثمانية، وفَرَضَ على الأتراك ارتداء القبّعة واللباس الأوروبي، وثورة يوليو في مصر بقيادة جمال عبدالناصر قررت إلغاء الطربوش لأنه رمز لعهد الإقطاعية. وكان الطربوش في السودان عبارة عن قبعة شائعة الاستخدام يرتديه موظفو الدولة والفقهاء وتلاميذ المدارس والمثقفين الذين كانوا يُعرفون بالأفندية، ولكنه صار رمزاً اشتهر به قادة حركة (اللواء الأبيض) الذين كانوا يُعرفون بثوار حركة 1924م فاتخذ بعضهم الطربوش انحيازاً لمصر وثورتها بقيادة سعد زغلول كمقابل ثوري يرمز لرفض إملاءات الاستعمار البريطاني الذي كان يريد أن يعمم القبعة بدلاً من الطربوش الذي ارتبط بالحكم التركي في مصر والسودان. وفي لبنان خلال مرحلة الانتداب الفرنسي، أصبح ارتداء الطربوش رمزاً للانتماء السياسي، فالذين كانوا يعتمرونه كانوا من أنصار الاستقلال عن فرنسا والانضمام إلى سوريا، أما الذين ارتدوا القبعات الغربية، فكانوا من أنصار الانتداب، أو أقلّه من المتحفظين على الوحدة مع سوريا.
وفي مصر حصلت معارك حامية بين الأدباء والسياسيين ووجهاء المجتمع المصري، عامي 1925و1926، لمنع ارتداء الطربوش، مبررين منعه كونه يرمز للمرحلة العثمانية البغيضة، وأن البلد المصدّر له (تركيا) تخلّت عنه، واقترحوا استبداله بالقبّعة، وقامت مجلة الهلال الشهيرة باستطلاع رأي اثنين من كبار الكتّاب أحدهما يدافع عن الطربوش وهو مصطفى صادف الرافعي والثاني يناضل من أجل القبّعة وهو الدكتور محمود عزمي، كما تقدّمت (الرابطة الشرقية) برئاسة عبدالحميد البكري نقيب الأشراف بسؤال إلى جمعية الأطباء حول أيهما صحيّاً أفضل الطربوش أم القبّعة، فكان جواب كبار الأطباء في 2 يوليو 1926 أن الطربوش لباس غير صحّي، فكان انحيازها للقبّعة، حيث أكّدت أن للباس الصحي شروطاً غير متوافرة إلا بالقبّعة. ولكن تدخّل الأزهر فيما بعد من خلال فتوى لشيخ الأزهر والمفتي بتحريم لبس القبّعة، فاستندت الدولة المصرية آنذاك إلى هذه الفتوى في حظر وضعه على رؤوس الطلاب.
كذلك يؤكد العديد من الباحثين أن للطربوش دلالات نفسية عديدة تعكس الحالة المزاجية على كل من يعتمره، إضافة إلى تحديد الانتماء الجغرافي والمستوى الاجتماعي للمواطنين (فإذا كان مستقيماً وثابتاً له معنى يتوافق مع الاستقامة، وإذا كان مائلاً إلى الخلف فيدل على المزاج الرائق، ولا يخلو من الرغبة في التوجيه أو السخرية. ومثلما لوضعية الطربوش على الرأس دلالة؛ فإن نوع الطربوش يحدد الانتماء الجغرافي والمستوى الاجتماعي، فطربوش (نابلس) يختلف عن طربوش (دمشق)، فالأول أكثر دكنة وأطول، إضافة إلى أن نهايته أدق، أما الطربوش الشامي فأقصر من حيث الارتفاع وأكثر توهجاً). وفي مصر سُمّيَّ الطربوش (الشاشية)، وهو الاسم نفسه الذي يُعرف به في المغرب، ويختلف الطربوش الدمشقي عن المصري بعدم ملامسته الكاملة للرأس وميلانه إلى أحد جوانبه.
وبالرغم من أن وظيفة الطربوش الأساسية كانت حماية الرأس من أشعة الشمس والأمطار إلا أن الباحثين المهتمين يؤكدون أن للطربوش وظائف متعددة، ومنها أنه كان وسيلة لجمع النقود للعريس في الأعراس (النقوط)، حيث يدور به رجل على الحاضرين كما كان يستخدمه البعض في الدبكات الفلكلورية، حيث كان قائد الرقصة الفلكلورية حين تستبد به الحماسة يلوّح بالطربوش على إيقاع الطبل والمزمار، كما تقول الباحثة ميسون شباني في بحث لها عن الطرابيش: حتى إذا استبدَت به حماسته رمى بطربوشه في الهواء، ثم تلقفه. كما كان يعتبر رمز الرجولة لدى النساء اللواتي كن يعجبن بالرجل المعتمر الطربوش، والذي ترافقه الخيزرانة في يده خلال تجواله في شوارع المدينة. أما الطريقة المثلى لاعتمار الطربوش فهي بجعل الشرابة على الجهة الخلفية من الرأس، وذلك للمحافظة على ملامح الوجه، مع ضرورة المحافظة على الوقار. وفي المقابل فإن وضع الشرابة في مقدمة الرأس لها مساوئ متعددة، منها أنها تدل على قلة احترام الشخص لذاته وللآخرين على حد سواء.
وكان الطربوش (الدمشقي) الذي تميز بالتطريز بالخيوط الذهبية على حوافه يعكس رمزاً اجتماعياً وثقافياً خاصاً لمناخ مرحلة من مراحل دمشق بصفة خاصة، (وكان ضرورياً لاستكمال المظهر الرسمي عند الموظفين الحكوميين، إلى أن انتهى استخدامه بعد الاستقلال عن الفرنسيين في منتصف القرن الماضي، وبقي في سيرة الذاكرة الشعبية والتراث)، وكان لصاحب الدخل المحدود طربوش واحد، وللشخص الغني طرابيش كثيرة تتفاوت من حيث اللون والمقاييس وأوقات الاستعمال، ولذلك كانت صناعة الطرابيش مزدهرة ولها صنّاعها الماهرين. فقد كانت مهنة صناعة وتفصيل الطرابيش إحدى المهن اليدوية التي تشتهر بها العديد من المدن العربية ومنها دمشق والقاهرة ونابلس في فلسطين وبيروت، (ومازالت هناك عوائل عربية تكنّى بلقب طرابيشي نسبة للمهنة التي كان أجدادهم يعملون بها وهي صناعة الطرابيش)، وكانت جميعها متشابهة مع اختلافات بسيطة في النماذج والألوان، ففي دمشق انتشرت محلات تصنيعها في أسواق تراثية كالمرجة والميدان وباب الجابية.. وغيرها، وكان العديد من الدمشقيين في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي المنصرم يسارعون إلى إرسال أبنائهم لتعلم هذه المهنة لدى معلمي خياطة وتفصيل الطرابيش، حيث كانت تؤمن لهم دخلاً مادياً جيداً، كما تساعدهم على التعرف على بكوات وباشوات وأفندية أيام زمان، وكانوا الزبائن المفضلين لمفصلي ومصنعي الطرابيش.
ومن القصص الاجتماعية الطريفة التي تُروى عن الطربوش تلك التي حدثت في مدينة حمص السورية أيام الانتداب الفرنسي، كما يرويها الباحث معتصم دالاتي، وهي أنّه كان هناك حلّاق في شارع السرايا بحمص، هذا الحلاق وجد طربوشه متسخاً ولم يشأ توفيراً للمال أن يأخذه إلى (الطرابيشي) لغسله وكيّه، بل قام بنفسه بالمهمة، وحار أين ينشره إلى أن يجف من الماء، فالطربوش لا يعصر مثل باقي الألبسة وجاءته الفكرة أن يربطه بالخيط المتدلي منه في المظلة التي ترتفع فوق الرصيف الذي يمتد أمام دكان الحلاقة، وهنا مرَّ أحد عناصر شرطة البلدية الموكل إليهم أمر قمع مخالفات إشغال الأرصفة فاعتبر الطربوش المتدلي من المظلة بواسطة الخيط المتأرجح في الهواء فوق الرصيف هو مخالفة تستوجب القمع، وكان الشرطي في تلك الأيام مثله مثل أي موظف، يتابع دالاتي: هو ابن حكومة مهيب الجانب مسموع الكلمة، لا أحد يجرؤ على رشوته أو مخالفة أمره مادام يطبق القانون، فما كان من هذا الشرطي تنفيذاً للتعليمات القاضية بقمع إشغال الأرصفة إلا أن دخل إلى دكان الحلاق واستل مقصاً توجه به نحو الطربوش المتدلي من الخيط فوق الرصيف وقام بقصه أي الخيط، ثم حمل الطربوش المخالف للأنظمة والتعليمات ثم أومأ للحلاق أن يتبعه إلى مبنى البلدية ليدفع غرامة إشغال الرصيف واسترجاع طربوشه الذي هو موضوع المخالفة.