مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

المجلة العربية.. ملاذ أخير للثقافة

من عاصر شيئاً من المرحلة الذهبية للصحف والمجلات، وكان له اهتمام بالقراءة والاطلاع، سيجد أن لكل منا قصته الشخصية مع هذه المطبوعات، حيث تستعيد ذاكرته بدايات التكوين الفكري والوعي المبكر، ويشعر بالحنين إلى تلك الأيام واللحظات الأولى التي تعرف فيها على هذه المجلة أو تلك، وكيف استمرت علاقته الذهنية بها، كإحدى النوافذ المبكرة التي اطلع فيها على المشهد الثقافي، وتعرف من خلالها على عوالم جديدة، وقامات ثقافية وأدبية.
وعلى الرغم من كثرة الصحف والمجلات الثقافية وتنوعها داخلياً وخارجياً، واهتمام الصحف بملاحق خاصة بالثقافة والأدب في العصر الذهبي للصحافة -قبل أن يتعرض الجميع لبركان عصر الإنترنت وتحولاته- فإن المجلة العربية ومنذ الأعداد الأولى لظهورها شكلت لنفسها هوية خاصة بها، وفرضت على المتابع احترامها، حيث كانت ملاذاً تنويرياً هادئاً بعيداً عن الضجيج والتحزبات الفكرية، ولم تتأثر بموجات الأدلجة الحادة التي مر بها المجتمع في بعض المراحل، ولا بالصراعات العقيمة والخفية بين بعض التيارات والتوجهات الفكرية التي كان لها حضور وجاذبية، ومع هدوء المحتوى الذي كانت تقدمه فإن المجلة العربية في مجمل تاريخها لم تكن جامدة وباهتة.
لقد كانت المنافسة الصحافية قوية، ومع ذلك احتفظت هذه المجلة بسمات خاصة بها، ووضعت لها مكاناً فريداً بين المطبوعات الأسبوعية أو المجلات الدورية الثقيلة، حيث استطاعت في بعض مراحلها أن تجذب شرائح وفئات متنوعة بين النخبوية وحديثي العهد بالثقافة من خلال تشجيع المواهب الأدبية والثقافية وتكثيف نشرها، وتقديم بعض الصفحات حتى للصغار أحياناً، ونجحت في استقطاب أسماء مهمة على صفحاتها من النخب الوطنية. كان محتوى هذه المواد يجمع بين الفكر والسير الشخصية والأدب، وقد كنت في سن مبكرة أنتظر بشغف كل عدد جديد للمجلة، وفي أحيان كثيرة كنت أتصفحها بلهفة قبل العودة إلى المنزل لقراءة سوانح الذكريات لحمد الجاسر، وصوت من الخليج لغازي القصيبي، وتباريح التباريح لأبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، وإطلالة على التراث لعبدالعزيز الخويطر، وخطوات على الطريق الطويل لحسن آل الشيخ. وكان من الأشياء الجميلة في هذه المجلة اهتمامها بالفن التشكيلي المحلي، وعرض الكثير من اللوحات وتعريف القارئ بهذا المجال، وبجيل من الرواد في هذا الفن.
لقد كان لاحتفاظها ببعض الأسماء الكبيرة ولفترات طويلة دور في ربط القارئ بها، مع وجود حوارات جديدة في كل عدد، وبعض الصفحات ذات الشعبية التي كانت مطلوبة في صحافة الماضي قبل عصر النت، كالفتاوى الدينية، والصفحات الطبية، وكاريكاتير محمد الخنيفر، وإتاحة الفرصة لمقالات لكتاب وكاتبات جدد ليتعرف عليهم القارئ.
لكل عصر ظروفه وأجواؤه ومتطلباته في النشر، لكن المجلة العربية ولدت منذ البدايات رصينة، ووفقت بفريق تحرير مستقر ومتواصل، ولم يتعرض لتقلبات عشوائية سريعة خلال عدة عقود، ولهذا حافظت المجلة العربية على خطها العام، وإن حدثت بعض المتغيرات، وفقاً لشخصية رئيس التحرير واهتماماته، ولكل منهم بصورة عامة قيمته الفكرية وإنتاجه الرصين.
وبعد نصف قرن، فإنه لا يمكن التعرف على شيء من تاريخنا الثقافي والأدبي دون المرور على هذه المجلة، التي يحسب لها تاريخياً أنها وفرت للأقلام الوطنية مكاناً للنشر، بعكس تجربة المجلات الثقافية الأخرى في بعض الدول الخليجية، فعلى الرغم من قيمتها الفكرية إلا أنها كانت منصات لاستقطاب نخب عربية ذات قيمة ثقافية، لكن على حساب النخب الوطنية في كثير من الحالات.
منذ أكثر من عقد واجهت المجلات الثقافية ولا تزال إشكالية طوفان الإنترنت، وتطبيقاته المستمرة في زخمها المشتت للقارئ، والمربك لكل المؤسسات الإعلامية والصحفية. وكان يفترض ألا يؤثر هذا كثيراً على المجلات والدوريات بحكم أن ليس من اختصاصها المنافسة على الزمن والسرعة وإنما في جودة المحتوى، لكن بالنسبة لهذه المجلات فالمعاناة حدثت لها من جانب آخر، وهو رحيل كثير من النخب الفكرية، وذات القيمة العالية في العالم العربي، والذين تعرفنا على جزء من إنتاجهم وقضاياهم من خلال هذه المطبوعات. لقد كانت هذه النخب رافعات فكرية لهذه المجلات ساعدت على انتشارها والاحتفاظ بشريحة من القراء الدائمين، وكانوا سبباً في جذب غيرهم للنشر فيها. وفي كل مرحلة لا يخلو المشهد الثقافي والفكري من كتاب لهم قيمتهم، يمكن أن يسهموا في جذب المتابعين مع شرط الاستمرارية وتعددهم، وهؤلاء لن يتوفروا في هذه المطبوعات طالما الذهنية المحاسبية هي التي تدير هذه المؤسسات، دون أن تدرك القيمة المضافة للحراك الثقافي في الوطن على المدى البعيد.
وقد يتوهم البعض أن زمن المجلات الثقافية قد ولى بلا رجعة، وفي تقديري أننا اليوم بحاجة لها على المستوى الوطني أكثر مما مضى مع فوضى النشر الإلكتروني. وعندما تهمل هذه المنصات العريقة، وتهجرها النخب الفكرية ستضعف لدينا أكثر الحالة الثقافية والأدبية والحوارات والجدل الفكري، وسيلحظ الباحثون بعد عقد أو عقدين ذوبان المنشورات الثقافية والأدبية في محيط الإنترنت بلا قاع، وقد لا يعثر على إنتاجهم أحد! ولهذا نلحظ أن كل ما يتم اليوم من أنشطة ثقافية وفعاليات جيدة تتبخر من الذاكرة سريعاً، نتيجة عدم الاهتمام بهذه المطبوعات كمخازن للذاكرة الوطنية من خلال النقد والتحليل والتعليق وإدارة الجدل.
إن المجلات الثقافية التي تصدر في كثير من الدول مع هذه التحولات لا تزال من أهم النوافذ التي يتم التعرف من خلالها على الخطاب الثقافي والأدبي والهموم الفكرية لهذا المجتمع أو ذاك، وهي تؤدي مهمة مزدوجة، في الوقت الذي تكون فيه حاضنة للفكر والأدب المحلي، فهي أيضاً تصدر خطابك الثقافي والأدبي إلى الآخر. منذ أكثر من عقد تطورت المجلة العربية كثيراً وواكبت المتغيرات، وأصبحت أكبر من مجرد مجلة بمنتجاتها المتنوعة من الكتب في مختلف الموضوعات العلمية والطبية والفلسفية والتاريخية والموسوعات في خدمة الفكر والثقافة، لتواصل مسيرة النجاح الممتدة منذ عقود.


* رئيس تحرير سابق لمجلة (المجلة)

ذو صلة