طوال نصف قرن، حافظت (المجلة العربية) على الصدور بانتظام مطلع كل شهر، مجلة ثقافية، تقوم عليها وزارة الثقافة بالمملكة العربية السعودية، اتخذت المجلة لنفسها هدفاً هو الاهتمام بنشر الثقافة العربية بالمعنى الواسع لمعنى الثقافة، أي تشمل كل جوانب الحياة الإنسانية، خصوصاً الأفكار والآداب.
مراجعة أعداد المجلة تكشف ذلك، اهتمام بفنون العمارة، المدن، السينما، كرة القدم وحتى تحولات الاقتصاد والتقنية في عالمنا.
ولا تغفل (المجلة العربية) نشر النصوص الأدبية، إذ تمنحها صفحات كافية، وهي في ذلك وفية للعنوان الذي تحمله، ذلك أنها تقدم نصوصاً بأقلام من كافة أنحاء العالم العربي، المهم هو جودة النص بغض النظر عن اسم أو موطن الكاتب، شاعراً كان أو قاصاً شاباً أو فتاة.
ولا يخفى على المتابع لأعداد المجلة، أن هناك حرصاً لدى هيئة تحرير المجلة بتقديم أسماء جديدة، بما يعطي فرصاً لأقلام وأجيال تسعى لأداء دور ثقافي وإبداعي.
تهتم (المجلة العربية) إلى جوار المادة المكتوبة بالصورة واللوحة، وتمنحهما مساحة كافية تماماً، باختصار الاهتمام بالثقافة البصرية إلى جوار المادة المقروءة، خصوصاً أننا نعيش ما يسمى (عصر الصورة)، الصورة هنا ليست مجرد ديكور ولا ضرورة الإخراج الصحفي بل هي عنصر مكمل، جوهري خصوصاً ما يتعلق منها بالمنشآت التراثية أو جوانب البيئة المختلفة، من المهم للقارئ العربي، الذي يقبع في قرية نائية أو مدينة محلية، أن يطالع مشاهد لمدن أو مناطق بعيدة عنه، قد لا يتاح له زيارتها يوماً.
ومع صدور العدد (240) من المجلة تم الاتجاه نحو تقديم كتاب مع كل عدد هدية للقارئ، يراعى في اختيارها الاهتمام بنصوص من التراث العربي، يتم تقديمها وتحقيقها، أو لكتاب معاصرين، وربما يكون الكتاب مترجماً، دون أن يتحمل القارئ عبئاً مادياً من الناحية العملية يكون الكتاب مجانياً، وإذا وضعنا في الاعتبار أن المجلة تصدر عن وزارة الثقافة، فهذا يعني أن الدولة ممثلة في الوزارة تدرك أن واجبها تقديم الخدمة الثقافية لمن يريد بالحدود الدنيا من التكلفة التي يتحملها القارئ.
وفي السنوات الأخيرة تضاعفت أسعار الورق وتكلفة الطباعة من أحبار وخلافه، الأمر الذي دفع بعض المطبوعات إلى التوقف أو التراجع مع ذلك مازالت (المجلة العربية)، تصل إلى القارئ بسعر بسيط جداً، القارئ في النهاية هو الهدف وينبغي الوصول إليه وأن تكون المطبوعة متاحة أمامه.
صدرت (المجلة العربية)، قبل نصف قرن، في الأصل كانت فكرة الراحل العظيم جلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز، ثم واصلت المجلة مسيرتها إلى يومنا هذا، دون توقف، وهذا يعني أن الهم والشأن الثقافي لا يشغل مجموعة الكتاب والأدباء فقط، بل الدولة ذاتها، عبر كبار المسؤولين وصناع القرار في عالمنا العربي.
لعبت المجلات الثقافية دوراً مهماً في حياتنا، حين كان التعليم محدوداً ولم يكن متاحاً للجميع، كما هو الآن، ولم تكن هناك قنوات تليفزيونية، بل قبل ظهور (الإذاعات)، لعبت هذه المجلات دوراً مهماً في التثقيف ونشر الأفكار الجديدة بين المواطنين.
وقد يندهش بعضنا من أن عدداً غير قليل من إصدارات كبار الكتاب والأدباء المعاصرين، نشرت في البداية منجمة في عدد من المجلات والصحف الثقافية، تأمل مثلاً (حديث عيسى بن هشام) للمويلحي، نظرات وعبرات المنفلوطي، حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) للدكتور هيكل، فضلاً عن معظم إصدارات طه حسين والعقاد وأحمد أمين وسواهم، حتى ثلاثية نجيب محفوظ نشرت في (الرسالة الجديدة)، التي ترأس تحريرها يوسف السباعي.
حين كانت المعرفة والعلوم حكراً على دائرة ضيقة من المقتدرين مالياً أو المتنفذين في العواصم والمدن الكبرى فقط ، قدمت هذه المجلات أنموذجاً للعدالة الثقافية والمعرفية بأن أتاحت الثقافة لعموم الناس في كل مكان، حتى في القرى والنجوع. الصحف والمجلات العربية، في وقت ما، كانت مدارس أو جامعة مفتوحة لمن لم يتح له الالتحاق بالتعليم، وهي مازالت تؤدي هذا الدور إلى اليوم، فضلاً عن أنها نافذة لتجدد المعرفة والفكر لمن أتموا تعليماً نظامياً.
قبل قرنين من الزمان كانت الثقافة العربية والإسلامية، تخرج من مرحلة المخطوطات والاعتماد على النسخ والنساخ إلى عالم الطباعة، ظهرت المجلات الثقافية لتكون فاتحة انتشار المعارف على نطاق واسع، هنا تذهب بنا الذاكرة إلى مجلة (روضة المدارس)، التي أصدرها الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي، في القاهرة، صدر العدد الأول، يوم السبت، 15 محرم سنة 1287 هجرية (1870 ميلادية)، كانت برعاية (ديوان المدارس)، من يومها لم تتوقف المجلات الثقافية عن الصدور إلى يومنا هذا، في عالمنا العربي كله، سواء وقفت خلفها وزارة وجهة رسمية أو كانت مشروعاً خاصاً.
وفي التاريخ الحديث والمعاصر كانت أعاصير السياسة تفرض بعض الضرورات والمحظورات هنا وهناك، حتى داخل البلد الواحد، لكن بقيت الثقافة ومجلاتها منطقة حرة، تتجاوز أي أعاصير أو عواصف، تتحرك بحرية من المحيط إلى الخليج.
ومن يراجع مجلات مثل (الهلال)، (العربي)، (المجلة العربية)، وغيرها يمكنه القول إن كل مطبوعة منها تكاد أن تكون وزارة خارجية، تؤدي دوراً فاعلاً في الترابط والإخاء العربي، دون مراسيم أو بروتوكولات.
بالتأكيد فإن ارتباط القارئ بالمجلة وحرصه عليها شرط رئيس لاستمرار صدورها، ذلك تعاقد غير مكتوب وعلاقة ارتباط، دليل جودة المجلة وأنها تقدم للقارئ ما ينتظره منها وتمثل إضافة حقيقية له، ثقافياً وأدبياً، هذا الارتباط، غير المرئي مؤشر النجاح الحقيقي.
وفي ظل الظروف الراهنة التي تحيط بعالمنا العربي، تبقى الثقافة رابطاً متيناً لنا، علينا الاعتصام به، وهذا يلقي مزيداً من العبء والدافع للمجلات الثقافية أن تواصل دورها.
خالص التقدير لوزارة الثقافة بالمملكة العربية السعودية وفريق العمل بالمجلة، ولمن أسسوا تلك المطبوعة، خصوصاً رئيس التحرير المؤسس د.منير العجلاني.
* وزير الثقافة المصري الأسبق