مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

المجلة العربية.. الاستمرار والرسالة

حين يكون الحديث عن مؤسسة إعلامية ثقافية بعد خمسين عاماً من الصدور والحياة والاستمرار فإنه سيكون حديثاً مختلفاً؛ لأن الاستمرار ليس لمؤسسة تجارية، بل لفكرة وخدمة رسالة في دعم الثقافة العربية المتزنة القادرة على تقديم مفاهيم وقيم الثقافة العربية والوفاء للمثقفين العرب الذين تركوا بصمة في ثقافة مجتمعاتهم المحلية أو الثقافة العربية على امتداد اللغة والجغرافيا والإنسان العربي.
كثير من الأفكار المهمة والمؤثرة تظهر وتتحول إلى عمل ومؤسسات، لكنها تفقد القدرة على الحياة الكاملة لأسباب عديدة، وتكون تلك المؤسسات عاجزة عن خدمة الفكرة الأولى وأحياناً عاجزة عن خدمة نفسها، فتخرج الفكرة وما جسدها من الحياة بلا أثر وبلا مكان معقول في ذاكرة جمهورها، ولهذا فإن الاحتفال بمرور خمسين عاماً على ظهور وإصدار المجلة العربية -مجلة الثقافة العربية- هو تقدير للفكرة الأولى للمجلة وأيضاً لقدرتها وإدارتها مهما تغير الأشخاص الذين حملوا لواء صناعة المؤسسة وتقديمها للجمهور وبناء بنيتها وجوهرها ومضمونها.
الاستمرار والحياة في عالم الفكر والثقافة والإبداع ليست إنجازاً إدارياً فحسب، بل في النجاح (لعقل المؤسسة) المرتبط بالمضمون وخدمة الفكرة الأم، فكثير من المؤسسات في مجال الفكر والإبداع والثقافة والإعلام فقدت قدرتها على البقاء مع توفر التمويل، لأنها لم تستطع تكوين مضمون حقيقي قادر على إقناع المتلقي قارئاً أو مشاهداً أو مستمعاً أن هناك جديداً مفيداً وحقيقياً تنتجه تلك المؤسسة وكادرها.
المجلة العربية -مجلة الثقافة العربية- نجحت في إقناع جمهورها من النخب أو عامة من يقرأها أنها تملك مساراً لصناعة المضمون، وأنها تختار موضوعات مختلفة وعناوين عميقة وتشكل إضافة نوعية للقارئ والمتابع وأيضاً في خدمة الثقافة العربية، ولم تكن موضوعاتها أسيرة زمان ثقافي أو جغرافيا عربية معينة، بل كانت بوصلتها جودة المضمون وعمقه واتزانه.
وبعد أن دخلنا في ثورة التواصل وتطور التكنولوجيا؛ كانت المجلة العربية مستعدة لاستثمار هذا التطور في التواصل والتقنيات لتقترب من جمهورها وحتى فئات لم تصلها من قبل، فحتى الفكر والثقافة تحتاج إلى تسويق جيد حتى تقنع من هو بعيد عنها أنها تستحق أن تكون جزءاً من اهتماماته وعلى أجندة المعرفة الخاصة به.
وحتى عندما يكون منتجك عميقاً متزناً وثقافة نوعية فإن جزءاً من أدوات خدمته أن تقدمه بشكل وإخراج فني يجذب إليه المهتم وغير المهتم، فالجوهر رفيع المستوى لا يقترب إليه البعض إذا كان الشكل والإخراج الفني ليس جذاباً، وهذا ما توفر عبر عقود في مسيرة المجلة، وتطور الشكل بتطور التقنيات جزء من مضمون ثقافي خصوصاً عندما يكون الشكل يعبر عن فكرة ثقافية وليس شكلاً عبثياً قد يترك أثراً على قيمة المضمون، فالشكل الخارجي أول ما يقابل القارئ وهو جزء من أدوات الإقناع أو تشكيل الانطباع الأولي وبخاصة لمن يبني علاقة عابرة أو تكون هي النظرة الأولى للمجلة.
نصف قرن من الحضور والمضمون والحياة مسيرة تستحق التقدير، ومن الوفاء منا نحن جمهورها أن نوجه تحية لكل من نسجوا خيطاً في هذا الثوب الثقافي العربي، وكل من صنعوا هذا البنيان قوياً محترماً، ولكل من حافظوا على جوهر الفكرة بحسن التنفيذ حتى وصلت من جيل لآخر عنواناً عربياً للثقافة العربية.
كل عام وأسرة المجلة بألف خير والتحية للمملكة العربية السعودية الدولة التي قدمت هذه الهدية لشعبها ولكل أهل الثقافة العربية والإنسانية.


* وزير الثقافة والإعلام الأردني الأسبق

ذو صلة