حينما يتساءل الدكتور عثمان بن محمود الصيني، في نهاية افتتاحيته المُعنونة (ثقافة ما بعد التغيُّرات) على صفحات (المجلة العربية) الغرَّاء العدد (424) هل نحن على أعتاب جديدة نحجز لنا مساحة معقولة في خارطة الثقافة العالمية تليق بنا كأمة، وبحضارتنا وثقافتنا العربية الإسلامية؟ والدكتور يقصد بالطبع تلك البلدان العربية التي قامت بها الثورات الشعبية التي تدعو للحرية والديمقراطية. لقد أُصبت بنوع من الأسى الممتزج بالأسف، وأنا أتأمل ملياً ما يتمناه الدكتور لتلك الشعوب، وبلدانها العريقة.
لقد قامت في مصر ثقافة مزدهرة، منذ أيام رائد التنوير المصري (رفاعة الطهطاوي)، ومروراً بحقب تاريخية تبنت مشروعاً ثقافياً هائلاً، أنار لمصر وللأمة العربية طريقها نحو مستقبل واعد لاسيما مع الخلاص من الاحتلال الإنجليزي الغاشم. مازلنا نذكر المشروع الثقافي العملاق الذي بدأت بوادره مع ما سميّ (الألف كتاب) الذي تبنى ترجمة أمهات الكتب من مختلف بلدان العالم المتطور وبخاصَّة في العلوم والفنون. تم تلاه إنشاء (دار المعارف المصرية) و(الهيئة المصرية العامة للكتاب).
وبنظرة موضوعية خالية من التحيُّز والتعصب، فأنا أجزم بأن هذه الصروح المصرية العملاقة، قد وهنت، وأصابها الترهل والعطب، وتكاد تُعلن إفلاسها المادي بعدما امتدت الأيدي الملوثة بالتهام مواردها وثرواتها، وصارت ككل
مؤسسات الدولة المصرية تُعاني (البيروقراطية) الرهيبة.
لقد تزامن هذا التردِّي لتك المؤسسات المصرية العملاقة، مع ظهور ثورة الحاسوب، وتكنولوجيا الإنترنت، وانتشار الفضائيات. في الوقت ذاته ازدادت الأوضاع الاقتصادية بؤساً وشقاءً، فأصبح الشعب المصري يرزح تحت خط الفقر والعوز. ولكي تكتمل الدائرة الجهنمية، فقد عزف طلاب المدارس والجامعات المصرية عن الثقافة بكل أشكالها.
لا ننكر أن الذي قام بثورات الربيع العربي هم الشباب، الذين انسحبوا من مجتمعاتهم، بعدما أيقنوا أنَّه لا خلاص لحاضرهم ومستقبلهم إلاَّ (بإسقاط النظام)، وعندما تحقق لهم ما أرادوا، اكتشفوا ، واكتشفنا معهم حجم الكارثة الثقافية التي حلت بالمجتمع المصري، وبدأنا نتساءل: ما هذا الجهل العارم؟ وما تلك الأمية المتسرطنة في الجسم المصري؟ وما هذا اللغو الذي لا ينتهي على مدار الساعة في البث المباشر على قنوات التلفزيون المصري الرسمي والخاص؟
نحن في مصر على أعتاب عهد جديد، ومرحلة حرجة للغاية، فأمر الثقافة في مصر لن يأتي بأي حال من الأحوال في مقدمة الأولويات، وإن أمر الثقافة في مصر مرهون بمتغيرات كثيرة للغاية، ومُعقَّدة بشدة، وإرهاصات لم تولد بعد، فالحاصل الآن أنَّنا نبحث عن أمان، عن هُوية!!