مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

الأغنية العربية بين المد والانحسار

منذ العصر القديم ،وحتى يومنا هذا ما تزال الأغنية العربية لها وقعها في النفوس ، وتجاوبها المؤثر الذي يسهم في تنمية الذوق لدى الإنسان العربي، وقد مرت الأغنية العربية بأطوار عديدة منذ نشأتها ، ولا يختلف اثنان أن النجاح الحقيقي يترافق بمقومات أساسية تعتبر الأساس في نجاح الأغنية العربية أو إخفاقها، خلودها أو موتها ، ولا أظن أن أحداً يخالفني الرأي في أهمية الكلمة أولاً ثم اللحن ثانياً ثم الأداء ثالثاً، ومن ثم المتلقي الذي هو الحكم والمقرر ، فالعلاقة متبادلة بين مؤثر ومتأثر، وينجم عن الانسجام بين هذه المقومات والعناصر أهمية الأغنية ونجاحها وشهرتها التي لا يمكن أن تقارن أبداً بأغنيات لا تتعدى شهرتها فقاقيع الصابون.
لقد مرت الأغنية بلا شك بعصرها الذهبي ، ثم تراجعت لأسباب عديدة، منها غياب دور الرقابة المسؤولة،والاتجاه إلى عملية التسويق للفائدة والربح، فالأغنية الأفضل هي التي تدرُّ أموالاً أكثر، دون النظر إلى سطحيتها وفراغها، وبريقها الزائف الخادع.
وفي لقاء لي مع الباحث الموسيقي عبد الرحمن جبقجي أكد على أن أحد أسباب تغريب الأغنية العربية هو دخول الآلات الغربية على الموسيقى العربية،وهي لا تلائم التخت الشرقي بل هي نشاز واضح، وذلك من خلال خليط غير متجانس لا يمكن أن يتوالد منه الفن العربي الأصيل.
لذا لا أغالي إذا قلت : إن أجمل الأغنيات العربية هي التي اعتمدت على القصائد الخليلية في كلماتها، والتي أبدعها فحول الشعراء العرب منذ الجاهلية، وحتى يومنا هذا، عدا عن كون الكلمة الفصيحة مفهومة في كافة أرجاء الوطن العربي، وكلامي هذا لا يقلل من أهمية الأغاني الأخرى. فكم من قائل :إن الأغنية العربية التي كانت تحرك المشاعر، وتخفق لها القلوب ،وتتمايل مع سماعها الرؤوس نشوة وطرباً لم تعد اليوم تحرك أكثر من الأقدام.
وإنني أتوجه إلى الرقابة الإعلامية لتأخذ دورها ،وخاصة مع المحطات العربية التي تبث الأغنيات الهابطة، والتي أعمى أصحابها الكسب المادي السريع ، فاتجهوا إلى الشكل على حساب المضمون دون الاهتمام ببناء الأجيال العربية، ورفع سويتهم الفنية، وتنقية ذوقهم العام ، فتكون الطامة الكبرى.
لقد أصبحت لغة الأغنية العربية اليوم لعبة خطيرة تنعكس علينا وعلى أجيالنا من بعدنا، ولذا يجب أن نقف أمام هذا المد الذي فيه الانحسار،وهو الذي يشوه هويتنا، ويفتك بمجتمعاتنا، بالرغم من أنه مهما حاول المتحذلقون أن يتلاعبوا في السيطرة على الساحة الغنائية، ويتبنوا خلق أغنية ناجحة لا يستطيعون أن يضمنوا لها الاستمرارية والخلود مدى الزمان، وهنا القيمة الجوهرية التي لا توازيها كنوز الأرض قاطبة.
كما ينبغي التنويه أن حداثية الأغنية العربية لا تعني قطعها عن أصولها ، ولا تعني أن تكون سريعة لتناسب العصر كالوجبات السريعة التي طعمها لذيذ،ولكن لا غذاء فيها ولافائدة منها، ولارتباط الأغنية بالواقع وانعكاسها عليه بشكل إيجابي دور مهم في وجودنا وحضارتنا والمحافظة على شجرتنا العربية الضاربة جذورها في أعمق أعماق تربة الأصالة والانتماء.
ثم نحن لسنا بصدد اللون الذي تنطبع به الأغنية،ولا المنطقة التي تسمها بسماتها ، بل نحن بصدد الغاية المنشودة في التوجيه والإرشاد ،وتنمية الحس المرهف ، والارتقاء بالخط البياني للأغنية العربية إلى أعلى المستويات، فما أقسى أن تزورك الكلمات النابية المغناة ، والتي تخدش الحياء دون رغبة منك ، وكذلك المظاهر الخلاعية المرافقة للأغنية والضجيج الذي يرافق الموسيقى الصاخبة،التي لا ضابط لها، ولا ناظم إلا الغوغائية، والانفلات من كل القيود الأخلاقية، فأين نعمة الإصغاء التي ترفد الروح بالراحة والسلام.
صحيح أن الأذواق تتنوع، ولكن كل الأذواق تتوحد مع الكلمات المعبرة الجميلة، واللحن الآسر الساحر بتوزيعه المتناغم، والصوت الذي يلامس أوتار القلوب المتعطشة إلى الفرح الحقيقي ،فيكون مع الإعجاب المتعة والفائدة معاً.
ولا بد لمن يؤمن بأن الفن رسالة أن يعمل بضمير ووجدان، ووفاء وإخلاص من أجل هذه الأمة ومستقبلها، ومن أجل التاريخ.
وكلمة حق لا يجهلها أحد هي أن أصوات البوم والغربان مهما علت وارتفعت لايمكن أن تمنع الطيور الجميلة من أن تغرد أغاريدها المموسقة بأنغام السحر والخير، والحب والجمال.
بقي أن أقول :لا أريد للأغنية العربية أن تبقى أسيرة الماضي، وألا نقف عند الدوبيت والقوما والأراجيز ، أو الموشحات والقدود والتراث العربي الغنائي القديم، بل نساير التطور الحضاري والتقدم الإنساني بفهم ووعي شامل، واعتبار الغناء القديم أساساً لبناء صروح الأغنية العربية الجديدة دون تنكر أو تهميش ، أودون الهروب إلى نتائج لا تحمد عقباها، فنكون جنينا على أنفسنا،وجنينا على مستقبل أجيالنا.
الأغنية العربية المعاصرة أمانة في أعناقنا جميعاً.
فلنتساءل -أخي القارئ- عن مدى ارتباطها بالهم العربي، ومدى انعكاسها على مرآة الواقع العربي ، وهل تلتحم بقضايا الجماهير العربية لتعبر عن تطلعاتها ، وعن شعورها وتراثها القومي؟ كأنها أصبحت اليوم سمراء بدوية ترتدي الجينز وتصبغ شعرها بالميش، وتلعب بها عملية التجميل لعبة النجاح الآني.
إن ذوق المتلقي من ذوق المبدع ، حيث ينحرف معه ويستقيم معه، والإبداع انعكاس لروح العصر، فلا بد من التحرر من قوقعة الجمود، وكشف القناع ، لتسهيل الولوج أمام الجيل الجديد،وحسب معطيات الواقع الجديد.
pantoprazol 60mg oforsendelse.site pantoprazol iv
ذو صلة