مجلة شهرية - العدد (582)  | مارس 2025 م- رمضان 1446 هـ

السؤال عن الموت في حقيقته

يبدو أن حركة الموت والحياة هذه ناموس طبيعي لحفظ التوازن البيئي وأن الحركة بصفة عامة هي سر الوجود ليتفاعل بعضه مع بعض إلى الأبد. إننا نموت ونحيا الملايين من المرات في كل لحظة من خلال الخلايا المكونة لنا وذلك ما يحدث في كل يوم لأبداننا خارجاً عن إرادتنا وكذلك تفعل بنا الحياة في المجتمع الذي هو أيضاً مكون من الأفراد الشبيهة بهذه الخلايا المكونة لأجسادنا، نموت ونحيا الملايين من المرات أيضاً في كل لحظة ولا ينمو هذا الجسد أو يذبل ولا ذاك المجتمع إلا بمدى ما يسمح به هذا الناموس الكوني المتواتر المتواصل. وأنه لثلاث هوالعمر، عمر جسماني أو (بيولوجي) وعمر نفساني وعمرك الاجتماعي. أما العمرالجسماني فهو ذلك الذي يعد بالأعوام التي تمضي بك في هذه الدنيا قبل رحيلك عنها ويسجل لك في البلدية التي تنسب إليها في بلادك وهو العمر العادي المتفق عليه بين الناس جميعاً في هذا العالم وهو نتيجة لتعاقب الليل والنهار ودوران الأرض حول نفسهامرة في كل يوم وليلة ودورانها حول الشمس مرة في كل عام، وأما العمر النفساني فهو ذلك الذي تعيشه في هذه الدنيا بثقافتك وبمدى وعيك بها فقد يكون أقل بكثير من ذلك العمر الذي يعد بالسنين لأنك فيه تتحرك في أغلب الأوقات وتعمل ولا تتوقف إلى آخر لحظة من حياتك حتى إذا ما اقترب منك الأجل انتبهت إلى أنك لم تقض من العمر إلا قليلاً وتطمح إلى المزيدمنه إذا ماشاء القدر. إن مثل هذا الانتباه قد يشتد في هذا العصر المتسارع نبضه إلى درجة أن الناس فيه قد صاروا يتبرمون أحياناً من قصر العمر ويصابون بالضغط النفسي كلما أحسوا بتقدم السن بهم سريعاً قبل الانتهاء من العمل، العمل على إنجاز المشروعات والمخططات المبرمجة. وقد يكون عمرك هذا طويلاً طويلاً جداً حتى تمله وتعافه وربما تصير منتظرا بفارغ الصبر لنهايته وذلك إذاما كنت فيه ساكنا قاعدا لاتتحرك (تاكل في القوت وتستنى في الموت) كما يقال في الأمثال الشعبية التونسية وربما تردد في خاطرك «اللهم لا تتركنا إلى أرذل العمر» فإذا ما قيل بأن الأجيال السابقة كانت تعيش أطول منا عمراً فذلك صحيح بالفعل لأن زمانها كان بطيئا إذا ما قيس بزماننا المتسارع؛ ولأن الزمن ما هو في الحقيقة إلا حركة في المطلق وإلا فإنه لم يكن، وكلما كانت هذه الحركة أسرع كان الزمن بنا أقصر وكلما كانت الحركة بنا أبطأ كان بنا الزمن أطول فلا يقاس إذن زماننا بقصرالعمر أوطوله وإنما يقاس بالحركة وإن لألبرت آينشتاين مثالاً يستدل به على طول العمر وقصره نسبة إلى الحركة «شابان قد ركب أحدهما صاروخاً وانطلق به في الفضاء الكوني بسرعة هائلة وآخر قد بقي في الأرض على حاله وقضى الأول يومين فقط وعاد من رحلته فوجد صاحبه قد صار شيخاً هرماً كما لو كان في الثمانين من عمره البدني هكذا هو الزمان الذي نحس به في عمرنا الجسدي، أما العمر النفسي فإنه عمر الإحساس بالثقافة أي عمر الإنسان في وعيه بذاته وبالبيئة المحيطة به وبمدى توسع أبعاده أو تقلصها به فعلى قدر ما يكون المرء على علم بذاته في موقعه وعلى علم بموقعه في العالم على قدر مايكون عائشاًفي حياته ومنغمساً في زمانه وطويلاً في عمره لأنه يمتد ببصره وبصيرته إلى أبعد مدى ممكن بثقافته هذه وعلى قدر ذلك يكون شاعراً بالزمن ولهذا يقول نزار قباني وله الحق في قوله:
تعبت من السفر الطويل حقائبي
وتعبت من خيلي ومن غزواتي
كل العصور أنا بها فكأنما
عمري ملايين من السنوات
وهذا الإحساس متناسب جداً في هذا العصر بالخصوص مع كل من يعيش متنقلاً في ما بين بلدان العالم أو ما بين عواصمها المتباعدة في مستوياتها الحضارية خصوصاً في فترة ما قبل انتشار العولمة هذه وتقنياتها المتطورة التي بدأت منذ مدة تقرب الناس بعضهم من بعض إذ بإمكان المرء منذ زمان بعيد أن ينتقل من الصومال أو من أرياف بنجلاديش إلى لندن أو باريس أو واشنطون وكأنما هو بذلك يقطع عصوراً بكاملهافي ساعات قليلة فما بالك لو يعيش هذا المرء في كل منها مرحلة من حياته كما يفعل الكثيرون في هذا الزمن؟ ألا يكون ذلك كمن يقفز على العصور قفزاً ويطول به العمر؟ لكنه عمر مختلف عن ذلك العمر الذي نمله أو ننتظر نهايته إنما هو عمر نستمرئه ونحبه ونحاول دائماً استدامته لأنه ممتع.
أما الاجتماعي فهو ذلك العمر الذي يعيش به المرء بعطائه وبذله وأخلاقه وبمدى انتشاره في محيطه وأبرز هؤلاء الذين يتمتعون بهذا العمر الاجتماعي المتسع والذي قد يدوم أكثر بكثير من العمر البدني هم أولاء المبدعون من العلماء والفلاسفة وأهل الفن والأدب والصناعة مثل سقراط وأرسطو في الفلسفة وبيكاسو وليوناردو ديفنشي في الفنون التشكيلية وموزار وبيتهوفن في ما يعرف الآن بالموسيقى الكلاسيكية والمتنبي والشابي في الشعر وطه حسين والمسعدي في الأدب وآينشتاين في الرياضيات وعلم الفلك وأديسون في الابتكارات والصناعة وابن خلدون في علم الاجتماع وغيرهم كثيرون ممن عاشوا طويلاً في زمانهم بفضل ما قدموه للإنسانية من عطائهم وها نحن لا نزال نعيش الآن بهم وكأنما هم لايزالون بنا يعيشون.
هذاهو العمر الاجتماعي ولاغرابة في هذا الرأي الذي أدلي به إذا ما علمنا بأن كل شخصية ذات أبعاد ثلاثة بالضرورة البعدالجسماني والبعد النفسي والبعد الاجتماعي وعلى قدر ما تكون هذه الأبعاد ضاربة في الآفاق على قدر ما يكون للإنسان وجوده الزمني.


ذو صلة