أحقا لا نحس بقيمة الأشياء إلا بعد فقدها .. ؟ بقي هذا التساؤل بخاطري طويلا، تردد في وجداني آلاف المرات.. لم تسعفني أبدا حيلتي في أن أصرخ في وجه الزمن الذي أطاح بأحلامي.
طـال وقوفي أمام المرآة طويلاً .. لاذت هي بالصمت أكثر مني، لم أستغرب منها ذلك فقد هالني منظر بقع الصدأ المتناثرة على صفحتها البيضاء .. هل يكون ذلك من فعل الزمن..؟
ها أنت تعودين من جديد لتجعليه شماعة تعلقين عليها أخطاءك، لا أدري حقا لماذا راودتني لحظتها أفكار جدتي وأمثالها الشعبية «..الرجال و الزمان ما فيهم أمان..» مع أنها كانت متسلطة على جدي التقي الورع .. وعلى الرغم من بنيته القوية التي تفوقها مرتين فإنها كانت تسيطر على قلبه و عقله بشكل واضح للجميع.
كلما عاد أدراجه من الجامع بجبته البيضاء الفضفاضة، تتدلى منها سلسلة ساعته الفضية، وببرنوسه الأسود الأنيق يتقدم نحونا بخطواته الثابتة ، نهرع إليه نحن أحفاده.. ليفرغ إلينا جيوبه المليئة بقطع الحلوى .. حتى ذلك اليوم فاجأنا فيه زائر الفجيعة والأحزان، اختطفه من بيننا.. حنت إليه جدتي كثيراً، فعرفت أنه الحب الصادق دون منازع.
تمنيت و أنا امرأة في أوج اندفاقي أن أكون بطلة من بطلات أحجياتها.. حينما كنا نتحلق من حولها صغارا ونغرق في الإنصات إليها وتستمر هي في سرد حكاية اللونجة ، والجارية الجميلة بشعرها الطويل على غير العادة يكسو مفاتنها.. أقهر قلوباً حنطت بالمكر و الخديعة.. فجرت أحلامي شظايا متناثرة على عتبات الزمن، انتشلتها دموع أمي الدافئة، تردد بصوت مختنق عبارات الأمل المشلولة، أقف معتوهة أمام أبواب الحياة من جديد.. لا أقدر أن ألجها، بيني وبينها تقف أعوام صادرت فيها أحلامي.. أستنجد بقاموس الضياع، أنتقي منه كلمات متعثرة .. أبحث بها عن سراب ضاع في ثنايا الحزن وأتساءل للمرة الألف: هل حقا ضيعت أحلامي.. أم أنها سرقت مني ..؟ أندفع نحو أغراضي و أشيائي.. أدفن أنفاسي المقهورة بين كتبي، و أوراقي تنبثق منها عيون لولبية تحمل في أهدابها دموع أفعى، أنتفض من مكاني مذعورة.. تلاحقني تلك العيون فأغرز فيها بصري .. أجد بداخلها ورقة بيضاء ، إنها شهادة ميلادي.. أحاول إمساكها لكنها تختفي بعدما ابتلعتها دوامة الزمن، أصطدم أنا بمرآتي، ترجعني خطواتي إلى الوراء.. حينها اشتعل بركان ثورتي عليها «أعرف أين سأجدها.. هناك بالقصر الحزين «أركض نحوه.. يطالعني كأسد رابض.. تربعت على عرشه الخرافة حيناً من الزمن، يقولون: «مأوى للأشباح تسكنه ليلاً و تغادره نهاراً..!! بني على سور المدينة العتيقة تحرسه عيون البحر نهاراً.. لينام في أحضان مدينة هادئة ليلاً» أقترب أكثر فأكثر ، تعترضني العيون اللولبية.. أظنها هي من سرقت أحلامي وعطلت لغة الإدراك عندي عشرة أعوام!! أتحسس قدميّ، مسكينة قدماي أتقنت لغة الهروب، منذ زمن تجرني إلى بيتي الصغير، تسرقني لحظات الأمان، أحتضن فيها زهراتي.. أشتم عطر البراءة فيهن ، أتلذذ بطعم الحياة بتقبيلهن.. أسمع وقع خطوات تعلو على إثرها نبضاتي.. يفتح الباب لينتصب بقامته أمامي وظله ساقط على وجهي.. أبحث عن عينيه فأجدهما لولبيتين تحملان في أهدابهما (...) أستنجد بصدر النافذة المفتوح .. يأتيني جدي بملامحه الهادئة تتبعه جدتي تصرخ في وجهي.. اهربــــي.. اهربـــــــي.. اهربــــــــي .