مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

ضرورة الترجمة

غير خاف على أي متتبع ومهتم بشأن الترجمة في عالمنا العربي، أن حالها لا يبعث على الارتياح ولا يدعو إلى ‏الاطمئنان. فحركة التأليف والإنتاج في مجال الترجمة في عالمنا العربي تبدو ضعيفة، بل هزيلة، إذا ما قورنت ‏بنظيراتها في الدول الأخرى، سواء أتعلق الأمر بالتأليف النظري، الذي يصاحب فعل الترجمة ويتتبع آليات ‏اشتغالها وإشكالاتها المختلفة، أم تعلق الأمر بحركة الترجمة، بما هي إنجاز وممارسة، تتحقق عبر نقل النصوص ‏من لغة إلى أخرى.‏
وإذا كانت القضايا ذات الصلة بالترجمة عديدة ومتشعبة، فإن الغاية النقدية لهذه الأسطر، المساهمة في فتح نقاش ‏هادئ مع فريق عريض ممن يتملكهم حماس زائد على الحد في التعصب للغة الأم. فهؤلاء لا يكتفون بإضمار ‏خشيتهم على اللغة والهوية العربيتين، بل تجد حماسهم يدفعهم إلى إعلان مواقف رافضة لحركة الترجمة جملة ‏وتفصيلاً، وإشاعة ثقافة الاحتراز منها، صوناً للذات من الاختراق والغزو الثقافي.‏
إن الترجمة في حقيقتها ضرورة إنسانية وحتمية حضارية، لا يمكن لأمة من الأمم أن تضمن بقاءها واستمراريتها ‏حية وفاعلة بين الأمم، ما لم تولها ما تستحقه من العناية والاهتمام. ولا تشذ الأمة العربية عن هذه القاعدة، بما هي ‏أمة ملزمة عقلاً وإنسانياً وشرعاً وأخلاقاً، بأن تنفتح على غيرها من الأمم، فالترجمة وسيلة لتجسير التواصل بين ‏الشعوب، ومعاينة التمايزات والمشتركات فيما بين الذوات اللغوية مهما كان تباعدها واختلافها. وهي السبيل ‏الوحيد لتخليص الذات اللغوية من عزلتها وانطوائيتها وانكفائها على نفسها.‏
وحري بنا جميعاً أن نكلم تاريخ أمتنا العربية الإسلامية، ففيه أوضح دليل دافع لشبهة خطر الترجمة على الثقافة ‏والهوية، ومثبت أهمية الترجمة ودورها الفاعل والمشهود في إغناء الذات وتطعيمها بعناصر استمرار ومقومات ‏انطلاق وبناء حضاري جديدة. فغير عازب عن الأذهان أنه منذ مطلع القرن الثاني الهجري انخرطت الأمة ‏العربية الإسلامية في حركة نشطة من الترجمة، كانت مدعومة بقرار سياسي واضح ومعلن، قوامه فسح المجال ‏أمام نقل المعارف والثقافات المكتوبة بلغات غير العربية. وقد رصد الساسة من بيت مال الدولة جوائز قيمة لكل ‏فعل ترجمي يساهم به صاحبه في إغناء الساحة الثقافية بمنتوج ثقافي غيري يجعله في متناول الناس، ويتيح له أن ‏يكون دولة بين متكلمي اللسان العربي وحده. ‏
لقد أصبحت الأمة العربية الإسلامية بفضل تلكم الجهود السابقة في الترجمة، أمة ذات حضارة مغتنية بروافدها ‏المتعددة وبمشاربها المتنوعة، يميزها طابعها الكوني وسمتها الإنساني، بغض النظر عن الأصول العرقية أو ‏الإثنية. فأمكن الاطلاع على شتى العلوم والمعارف. وبفضل حركة الترجمة، وبانتهاجها سياسة ثقافية رسمية ‏خاضعة لتخطيط مسبق، تملك العرب المسلمون علوم الغير، وأغنوا ثقافتهم المحلية، ومدوها بروح جديدة، أهلت ‏الأمة برمتها لتصبح أمة كونية، تأخذ وتعطي، تنفع غيرها وتنتفع لذاتها.‏
ذو صلة