غير خاف على أي متتبع ومهتم بشأن الترجمة في عالمنا العربي، أن حالها لا يبعث على الارتياح ولا يدعو إلى الاطمئنان. فحركة التأليف والإنتاج في مجال الترجمة في عالمنا العربي تبدو ضعيفة، بل هزيلة، إذا ما قورنت بنظيراتها في الدول الأخرى، سواء أتعلق الأمر بالتأليف النظري، الذي يصاحب فعل الترجمة ويتتبع آليات اشتغالها وإشكالاتها المختلفة، أم تعلق الأمر بحركة الترجمة، بما هي إنجاز وممارسة، تتحقق عبر نقل النصوص من لغة إلى أخرى.
وإذا كانت القضايا ذات الصلة بالترجمة عديدة ومتشعبة، فإن الغاية النقدية لهذه الأسطر، المساهمة في فتح نقاش هادئ مع فريق عريض ممن يتملكهم حماس زائد على الحد في التعصب للغة الأم. فهؤلاء لا يكتفون بإضمار خشيتهم على اللغة والهوية العربيتين، بل تجد حماسهم يدفعهم إلى إعلان مواقف رافضة لحركة الترجمة جملة وتفصيلاً، وإشاعة ثقافة الاحتراز منها، صوناً للذات من الاختراق والغزو الثقافي.
إن الترجمة في حقيقتها ضرورة إنسانية وحتمية حضارية، لا يمكن لأمة من الأمم أن تضمن بقاءها واستمراريتها حية وفاعلة بين الأمم، ما لم تولها ما تستحقه من العناية والاهتمام. ولا تشذ الأمة العربية عن هذه القاعدة، بما هي أمة ملزمة عقلاً وإنسانياً وشرعاً وأخلاقاً، بأن تنفتح على غيرها من الأمم، فالترجمة وسيلة لتجسير التواصل بين الشعوب، ومعاينة التمايزات والمشتركات فيما بين الذوات اللغوية مهما كان تباعدها واختلافها. وهي السبيل الوحيد لتخليص الذات اللغوية من عزلتها وانطوائيتها وانكفائها على نفسها.
وحري بنا جميعاً أن نكلم تاريخ أمتنا العربية الإسلامية، ففيه أوضح دليل دافع لشبهة خطر الترجمة على الثقافة والهوية، ومثبت أهمية الترجمة ودورها الفاعل والمشهود في إغناء الذات وتطعيمها بعناصر استمرار ومقومات انطلاق وبناء حضاري جديدة. فغير عازب عن الأذهان أنه منذ مطلع القرن الثاني الهجري انخرطت الأمة العربية الإسلامية في حركة نشطة من الترجمة، كانت مدعومة بقرار سياسي واضح ومعلن، قوامه فسح المجال أمام نقل المعارف والثقافات المكتوبة بلغات غير العربية. وقد رصد الساسة من بيت مال الدولة جوائز قيمة لكل فعل ترجمي يساهم به صاحبه في إغناء الساحة الثقافية بمنتوج ثقافي غيري يجعله في متناول الناس، ويتيح له أن يكون دولة بين متكلمي اللسان العربي وحده.
لقد أصبحت الأمة العربية الإسلامية بفضل تلكم الجهود السابقة في الترجمة، أمة ذات حضارة مغتنية بروافدها المتعددة وبمشاربها المتنوعة، يميزها طابعها الكوني وسمتها الإنساني، بغض النظر عن الأصول العرقية أو الإثنية. فأمكن الاطلاع على شتى العلوم والمعارف. وبفضل حركة الترجمة، وبانتهاجها سياسة ثقافية رسمية خاضعة لتخطيط مسبق، تملك العرب المسلمون علوم الغير، وأغنوا ثقافتهم المحلية، ومدوها بروح جديدة، أهلت الأمة برمتها لتصبح أمة كونية، تأخذ وتعطي، تنفع غيرها وتنتفع لذاتها.